به يستهزءون) أي ما يأتي رسول من الرسل شيعته إلا كانوا به يستهزءون كما يفعله هؤلاء الكفار مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجملة إلا كانوا به يستهزءون في محل نصب على الحال، أو في محل رفع على أنها صفة رسول، أو في محل جر على أنها صفة له على اللفظ لا على المحل (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) أي مثل ذلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم (نسلكه) أي الذكر (في قلوب المجرمين)، فالإشارة إلى ما دل عليه الكلام السابق من إلقاء الوحي مقرونا بالاستهزاء، والسلك إدخال الشئ في الشئ كالخيط في المخيط، قاله الزجاج.
قال: والمعنى كما فعل بالمجرمين الذين استهزءوا نسلك الضلال في قلوب المجرمين. وجملة (لا يؤمنون به) في محل نصب على الحال من ضمير نسلكه: أي لا يؤمنون بالذكر الذي أنزلناه، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان ما قبلها فلا محل لها، وقيل إن الضمير في نسلكه للاستهزاء، وفى لا يؤمنون به للذكر، وهو بعيد، والأولى أن الضميرين للذكر (وقد خلت سنة الأولين) أي مضت طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم، حيث فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاء. وقال الزجاج: وقد مضت سنة الله في الأولين بأن سلك الكفر والضلال في قلوبهم. ثم حكى الله سبحانه إصرارهم على الكفر وتصميمهم على التكذيب والاستهزاء، فقال (ولو فتحنا عليهم) أي على هؤلاء المعاندين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم المكذبين له المستهزئين به (بابا من السماء) أي من أبوابها المعهودة ومكناهم من الصعود إليه (فظلوا فيه) أي في ذلك الباب (يعرجون) يصعدون بآلة أو بغير آلة حتى يشاهدوا ما في السماء من عجائب الملكوت التي لا يجحدها جاحد ولا يعاند عند مشاهدتها معاند، وقيل الضمير في فظلوا للملائكة:
أي فظل الملائكة يعرجون في ذلك الباب، والكفار يشاهدونهم وينظرون صعودهم من ذلك الباب (لقالوا) أي الكفار لفرط عنادهم وزيادة عتوهم (إنما سكرت أبصارنا) قرأ ابن كثير سكرت بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد وهو من سكر الشراب، أو من السكر، وهو سدها عن الإحساس، يقال سكر النهر: إذا سده وحبسه عن الجري، ورجع الثاني بقراءة التخفيف. وقال أبو عمرو بن العلاء: سكرت غشيت وغطيت، ومنه قول الشاعر:
وطلعت شمس عليها مغفر * وجعلت عين الجزور تسكر وبه قال أبو عبيد وأبو عبيدة. وروى عن أبي عمرو أيضا أنه من سكر الشراب: أي غشيهم ما غطى أبصارهم كما غشى السكران ما غطى عقله، وقيل معنى سكرت حبست كما تقدم، ومنه قول أوس بن حجر:
فصرت على ليلة ساهره * فليست بطلق ولا ساكره قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة (بل نحن قوم مسحورون) أضربوا عن قولهم سكرت أبصارنا ثم ادعوا أنهم مسحورون: أي سحرهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفى هذا بيان لعنادهم العظيم الذي لا يقلعهم عنه شئ من الأشياء كائنا ما كان، فإنهم إذا رأوا آية توجب عليهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله نسبوا إلى أبصارهم أن إدراكها غير حقيقي لعارض السكر، أو أن عقولهم قد سحرت فصار إدراكهم غير صحيح، ومن بلغ في التعنت إلى هذا الحد فلا تنفع فيه موعظة، ولا يهتدى بآية.
وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله (تلك آيات الكتاب) قال: التوراة والإنجيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في (تلك آيات الكتاب) قال: الكتب التي كانت قبل القرآن (وقرآن مبين) قال: مبين والله هداه ورشده وخيره. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) قال: ود المشركون يوم بدر حين