يا محمد، ويجوز أن يكون خطابا لكل من يصلح له من المكلفين، وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير تعريض لأمته فمعناه التثبيت على ما كان عليه من عدم الحسبان كقوله - ولا تكونن من المشركين - ونحوه، وقيل المراد: ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم، أو يكون المراد بالنهي عن الحسبان الإيذان بأنه عالم بذلك لا تخفى عليه منه خافية. وفى هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإعلام للمشركين بأن تأخير العذاب عنهم ليس للرضا بأفعالهم، بل سنة الله سبحانه في إمهال العصاة (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) أي يؤخر جزاءهم ولا يؤاخذهم بظلمهم. وهذه الجملة تعليل للنهي السابق.
وقرأ الحسن والسلمي وهو رواية عن أبي عمرو بالنون في نؤخرهم. وقرأ الباقون بالتحتية. واختارها أبو عبيد وأبو حاتم لقوله (ولا تحسبن الله) ومعنى (ليوم تشخص فيه الأبصار) أي ترفع فيه أبصار أهل الموقف، ولا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم، هكذا قال الفراء. يقال: شخص الرجل بصره وشخص البصر نفسه إلى السماء من هول ما يرى، والمراد أن الأبصار بقيت مفتوحة لا تتحرك من شدة الحيرة والدهشة (مهطعين) أي مسرعين من أهطع يهطع إهطاعا: إذا أسرع، وقيل المهطع: الذي ينظر في ذل وخشوع. ومنه:
بدجلة دارهم ولقد أراهم * بدجلة مهطعين إلى السماء وقيل المهطع: الذي يديم النظر. قال أبو عبيدة: قد يكون الوجهان جميعا، يعنى الإسراع مع إدامة النظر، وقيل المهطع الذي لا يرفع رأسه. وقال ثعلب: المهطع الذي ينظر في ذل وخضوع، وقيل هو الساكت. قال النحاس: والمعروف في اللغة أهطع: إذا أسرع (مقنعي رؤوسهم) أي رافعي رؤوسهم، وإقناع الرأس: رفعه، وأقنع صوته: إذا رفعه، والمعنى: أنهم يومئذ رافعون رؤوسهم إلى السماء ينظرون إليها نظر فزع وذل ولا ينظر بعضهم إلى بعض. وقيل إن إقناع الرأس نكسه، وقيل يقال أقنع: إذا رفع رأسه، وأقنع: إذا طأطأ ذلة وخضوعا، والآية محتملة للوجهين. قال المبرد: والقول الأول أعرف في اللغة. قال الشاعر:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا * كأنما أبصر شيئا أطمعا (لا يرتد إليهم طرفهم) أي لا ترجع إليهم أبصارهم. وأصل الطرف: تحريك الأجفان، وسميت العين طرفا لأنه يكون بها. ومن إطلاق الطرف على العين قول عنترة:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي * حتى توارى جارتي مأواها (وأفئدتهم هواء) الهواء في اللغة: المجرف الخالي الذي لم تشغله الأجرام، والمعنى: أن قلوبهم خالية عن العقل والفهم لما شاهدوا من الفزع والحياة والدهش، وجعلها نفس الهوى مبالغة، ومنه قيل للأحمق والجبان قلبه هواء:
أي لا رأى فيه ولا قوة، وقيل معنى الآية أنها خرجت قلوبهم عن مواضعها فصارت في الحناجر. وقيل المعنى:
إن أفئدة الكفار في الدنيا خالية عن الخير، وقيل المعنى: وأفئدتهم ذات هواء. ومما يقارب معنى هذه الآية قوله تعالى - وأصبح فؤاد أم موسى فارغا أي خاليا من كل شئ إلا من هم موسى (وأنذر الناس) هذا رجوع إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أمره الله سبحانه بأن ينذر الناس، والمراد الناس على العموم، وقيل المراد كفار مكة، وقيل الكفار على العموم. والأول أولى لأن الإنذار كما يكون للكافر يكون أيضا للمسلم. ومنه قوله تعالى - إنما تنذر من اتبع الذكر - ومعنى (يوم يأتيهم العذاب) يوم القيامة: أي خوفهم هذا اليوم، وهو يوم إتيان العذاب. وإنما اقتصر على ذكر إتيان العذاب فيه مع كونه يوم إتيان الثواب، لأن المقام مقام تهديد، وقيل المراد به يوم موتهم، فإنه أول أوقات إتيان العذاب، وقيل المراد يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، وانتصاب يوم