في نفسه، مخدوع عن دينه، ملبس عليه عاقبة أمره، وإنما مثله مثل مريض به علة لا يزيلها إلا دواء مركب من أخلاط كثيرة، لا يعرفها إلا حذاق الأطباء، فسعى في طلب الطبيب بعد أن هاجر عن وطنه حتى عثر على طبيب حاذق، فعلمه الدواء، وفصل له الاخلاط، وأنواعها ومقاديرها، ومعادنها التي منها تجلب وعلمه كيفية دق كل واحد منها، وكيفية خلطها وعجنها، فتعلم ذلك منه، وكتب منه نسخة حسنة بحسن خط، ورجع إلى بيته، وهو يكررها ويقرأها، ويعلمها المرضى، ولم يشتغل بشربها واستعمالها، أفترى أن ذلك يغني عنه من مرضه شيئا؟! هيهات لو كتب منه ألف نسخة، وعلمه ألف مريض حتى شفى جميعهم، وكرره كل ليلة ألف مرة لم يغنه ذلك من مرضه شيئا إلى أن يزن الذهب، ويشتري الدواء ويخلطه كما تعلم، ويشربه، ويصبر على مرارته، ويكون شربه في وقته، وبعد تقديم الاحتماء، وجميع شروطه، وإذا فعل جميع ذلك كله، فهو على خطر من شفائه، فكيف إذا لم يشربه أصلا؟ هكذا الفقيه إذا أحكم علم الطاعات، ولم يعمل بها، وأحكم علم المعاصي الدقيقة والجليلة، ولم يجتنبها، وأحكم على الأخلاق المذمومة، وما زكى نفسه منها، وأحكم علم الأخلاق المحمودة، ولم يتصف بها، فهو مغرور في نفسه مخدوع عن دينه، إذ قال الله تعالى: قد أفلح من زكيها. 1 ولم يقل: قد أفلح من تعلم كيفية تزكيتها، وكتب علمها، وعملها الناس.
وعند هذا يقول له الشيطان: لا يغرنك هذا المثال، فإن العلم بالدواء لا يزيل المرض، وأما أنت فمطلبك القرب من الله تعالى وثوابه، والعلم يجلب الثواب، ويتلو عليه الأخبار الواردة في فضائل العلم. فإن كان المسكين معتوها مغرورا وافق ذلك هواه، فاطمأن إليه وأهمل، وإن كان كيسا، فيقول للشيطان: أتذكرني فضائل العلم، وتنسيني ما ورد في العالم الذي لا يعمل بعلمه، كقوله تعالى - في وصفه مشيرا إلى بلعم بن باعورا، الذي كان في حضرته اثنا عشر ألف محبرة يكتبون عنه،