كما علمت حظ في ادراك الأمور الكلية بل لا تدرك الا الأمور الحاضرة المحسوسة الجزئية أو (1) المتعلقة بالمحسوس وكان الغالب ان وجود الأبناء وغالب حياتهم وتصرفاتهم في زمان غير زمان الاباء لا جرم كانت نفوسهم أكثر انفعالا وأطوع لأخلاق زمانهم وعاداتهم وزيهم وحالاتهم منها لعادات الاباء وحالاتهم لمكان المشاهدة للحال الحاضرة والمنادمة والاتصال والمعاشرة والغفلة عن حال الاباء لأقلية معاشرتهم ومصاحبتهم لتقضيهم وأقلية وجودهم في زمان وجود الأبناء حتى أن انسانا لو عاشر أبا صالحا وتأدب بآدابه وتخلق بأخلاقه ثم فقده وعاشر من له ضد تلك الأخلاق فإنه ربما استنكرها في أول الصحبة ثم إن نفسه بعد حين تنفعل عن تلك الأخلاق وتكتسبها لكثرة مشاهدتها وتكررها على قوى الحس وعقلة (2) النفس بها وتحلل الأخلاق الأولى على التدريج فربما انسلخ بالكلية عن تلك الأخلاق الصالحة إلى التكيف بضدها وبالعكس وكذلك لو كان لأبيه صنعة (3) مستحسنة في وجوده أو لباس يليق بحاله من أهل زمانه وكذلك سائر العادات التي يعتادها ذلك الأب ويتخلق بها ويليق بحاله في وقته ثم نشأ ولده في وقت آخر بين آخرين المنكرين للزي الأول ومستحسنين لزي ثان وعادة قد اكتسبوها غير الأولى فإنه لا يتزيا الا بذلك الزي ولا يغير تلك العادة ولا يتخلق بغير الأخلاق الحاضرة دون أخلاق آبائه وعاداتهم، ولو فرضنا انه نشأ عليها وتزيا بها مدة وتكلف البقاء عليها فان طبعه لابد وان يقوده إلى العادات والأخلاق الحاضرة اما كلها أو بعضها وليس ذلك الا لما قلناه من من كثرة المشاهدة والاطلاع الحسى على الأمور الحاضرة التي عليها أهل زمانه وانفعال النفس بها وغفلتها عن الاحتراز بمراجعة العقل في مراعاة أنفع تلك الأخلاق الماضية والحاضرة في أمر المعاش والمعاد واكتسابه (4) واعتبار أضر تلك الادات والحالات فيهما
(٩٥)