متوجهة بها من المطالب مترددة في المعاني الحاضرة عندها طالبة مبادئ تلك المطالب الموصلة إليها حتى يظفر بالحد الأوسط منها ويضعه (1) مع طرفي المطلوب أحد الأوضاع المخصوصة التي يستلزم المطلوب فيرجع منها إليه وإن كان قد يطلق على غير هذا المعنى، واما الاعتبار فهو مأخوذ من العبور وهو المجاوزة والتعدي من شئ إلى شئ، ولما كان السالك بالنظر متجاوزا بقدم فكره المبادئ إلى المطالب لا جرم كان معتبرا وإذا عرفت ذلك لاح لك حينئذ وجه الملازمة بين النظر والاعتبار وان من نظر النظر التام بشروطه الصحيحة فلابد وان (2) يعتبر.
فان قلت: المراد من الاعتبار ليس هو العبور بل الاتعاظ والانزجار بدليل قوله تعالى:
وان لكم في الانعام لعبرة (3) وقوله تعالى: ان في ذلك لعبرة لأولي الأبصار (4)؟
قلت: لا نسلم بل الاعتبار حقيقة فيما ذكرنا بدليل انه يقال: اعتبر فاتعظ فتعليل (5) الاتعاظ بالاعتبار والناظر في كيفية خلقة الانعام وفى خلق السماوات والأرض عابر بحركته الفكرية في ترتيب دليل من خلقها على وجود الصانع وحكمته إلى ذلك المطلوب الا ان الاتعاظ لما كان من لوازم ذلك العبور حتى إذا تقررت في النفس حقائق الأشياء وما يجب ان يقتنى فتطلبه وما ينبغي ان يترك فتجتنبه مما هو ضار لها في أمر معادها فحينئذ تنزجر عن متابعة هواها فيما يوجب لها العذاب الأليم وذلك معنى اتعاظها، والى ذلك أشير في التنزيل الإلهي: إنما يخشى الله من عباده العلماء (6) الذين لمحوا بلواحظ أفكارهم عواقب الأمور ونتائج المقدمات فلازموا خشية الله تعالى وانزجروا عن متابعة الهوى لاجرم اطلق في موضع آخر لفظ العبرة والاعتبار على الاتعاظ مجازا من باب اطلاق اسم الملزوم