المسيحية وتنمو في قلب الإمبراطورية الرومانية، الآخذة بزمام القيادة العالمية، وأن تنشأ حركة الاصلاح الديني، في أكثر المجتمعات الأوروبية، تطورا ونموا من الناحية البورجوازية. مع أن الواقع التاريخي، يختلف عن ذلك تماما.
فالمسيحية لم تنشأ في نقاط التمركز السياسي، ولم تولد في أحضان الرومان الذين بنوا الدولة العالمية، وكانوا يعبرون في نشاطاتهم عنها، وإنما نشأت بعيدة عن ذلك كله، في إقليم من الأقاليم الشرقية المستعمرة للرومان، ونمت بين شعب يهودي مضطهد، لم يكن - منذ استعمرته الإمبراطورية على يد القائد الروماني (بمبي) قبل الميلاد بستة عقود - يحلم إلا بالاستقلال القومي، وتحطيم الأغلال التي تربطه بالمستعمرين، الأمر الذي كلفه كثيرا من الثورات، وعشرات الألوف من الضحايا، خلال تلك العقود الستة فهل كانت ظروف هذا الشعب المادية والسياسية والاقتصادية جديرة بأن تتمخض عن الدين العالمي، الذي يلبي حاجات الإمبراطورية المستعمرة؟!.
وحركة الإصلاح الديني، التي نشأت عن طلائع التحرر الفكري في أوروبا، هي الأخرى لم تكن وليدة القوى البورجوازية على مكاسب، غير أن هذا لا يعني أنها بوصفها إيديولوجية معينة قد نشأت عن مجرد التطور الاقتصادي البورجوازي. وإلا لكانت انكلترا أجدر بها من البلاد، التي إنبثقت عنها حركة الاصلاح، لأن البورجوازية في إنكلترا، كانت أقوى منها في أي بلد أوروبي آخر، والتطور الاقتصادي والسياسي، الذي أحرزته خلال ثورات، منذ عام (1215)، جعلها في موضع لا تصل إلى مستواه البلدان الأخرى، وبالرغم من ذلك لم يظهر ((لوثر)) في انكلترا استجابة للوعي البورجوازي فيها، وإنما ظهر بعيدا عنها، ومارس نشاطه ودعوته في ألمانيا، كما ظهر في فرنسا الزعيم الثاني للحركة في شخص (كالفن) البروتستانتي العنيد، الذي جرت في فرنسا على عهده عدة مذابح واشتباكات مروعة، بين الكاثوليك والبرتستانت، ووقف الأمير الألماني (وليم أورانج) يدافع عن الحركة الجديدة بجيش جرار.