الكونية كلها - الطبيعية والإنسانية - خاضعة لمبدأ العلية. فما هو السبب - إذن - لكل التغييرات الاجتماعية، التي تبدو على مسرح التاريخ؟. قد يجاب على هذا السؤال: بأن السبب هو الفكر أو الرأي السائد في المجتمع. فالمجتمع الأوروبي الحديث، يختلف عن المجتمع الأوروبي - القديم، تبعا لنوعية الأفكار والآراء الاجتماعية العامة، السائدة في كل من المجتمعين.
ولكن هل يمكن أن نقف عند هذا في تفسير التاريخ والمجتمع؟.
إننا إذا تقدمنا خطوة إلى الأمام، في تحليلنا التاريخي، نجد أنفسنا مرغمين على التساؤل: عما إذا كانت آراء البشر وأفكارهم خاضعة لمجرد المصادفة. ومن الطبيعي أن يكون الجواب على هذا السؤال - في ضوء مبدأ العلية - سلبيا. فليست آراء البشر وأفكارهم، خاضعة للمصادفة، كما أنها ليست فطرية، تولد مع الناس، وتموت بموتهم. وإنما هي آراء وأفكار مكتسبة، تحدث وتتغير وتخضع، في نشوئها وتطورها لأسباب خاصة فلا يمكن - إذن - اعتبارها السبب النهائي، للأحداث التاريخية والاجتماعية، ما دامت هي بدورها أحداثا خاضعة لأسباب وقوانين محددة. بل يجب أن نفتش عن العوامل المؤثرة، في نشوء الآراء والأفكار وتطورها. فلماذا - مثلا - ظهر القول بالحرية السياسية في العصر الحديث، ولم يوجد في قرون أوروبا الوسطى وكيف شاعت الآراء التي تعارض الملكية الخاصة، في المرحلة التاريخية الحاضرة، دون المراحل السابقة؟
وهنا قد نفسر، بل من الضروري أن نفسر نشوء الآراء وتطورها، عن طريق الأوضاع الاجتماعية. بصورة عامة، أو بعض تلك الأوضاع - كالوضع الاقتصادي - بوجه خاص. ولكن هذا لا يعني أننا تقدمنا في حل المشكلة الفلسفية شيئا. لأننا لم نصنع أكثر من أننا فسرنا تكون الآراء وتطورها تبعا لتكون الأوضاع الاجتماعية وتطورها. وبذلك انتهينا إلى النقطة التي ابتدأنا بها، انتهينا إلى الأوضاع الاجتماعية، التي كنا نريد منذ البدء أن نفسرها، ونستكشف أسبابها، فإذا كانت الآراء وليدة الأوضاع الاجتماعية، فما هي الأسباب التي تنشأ عنها الأوضاع الاجتماعية،