وذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني في كتاب الوساطة ان أبا الطيب نسج على منوال ديك الجن حيث قال:
أحل وأمرر وضر وانفع ولن * وأخشن ورش وابر وانتدت للمعالي مفارقته لسيف الدولة وسببها مر عن علي بن كوجك ان أحد أسباب فراقه سيف الدولة ما جرى بينه وبين ابن خالويه ومر ان سيف الدولة تغير عليه لكثرة إدلاله وان أبا فراس ألف من ذلك وتكلم فيه مع سيف الدولة فاثر فيه كلامه فقال المتنبي الأبيات التي أولها: الا ما لسيف الدولة اليوم عاتبا وان سيف الدولة غضب من كثرة مناقشته في الميمية وكثرة دعاويه وانه ضربه بدواة كانت بين يديه ثم رضي عنه وبالجملة يفهم من مجموع ما تقدم تغير سيف الدولة عليه بسبب عجرفته كما يشير إليه أيضا ما مر من أنه لما أنشد القصيدة الميمية اضطرب المجلس لما اشتملت عليه من التظلم من سيف الدولة ونسبته إلى عدم الإنصاف وعدم معرفة الرجال والتفرقة بينها وافتخاره الافتخار المتجاوز الحد وتهديده له بالمفارقة وان سيف الدولة سيندم إذا فارقه وغير ذلك، ومن التأمل في الميمية السابقة يظهر انه كان قد حدث نفسه بمفارقته في ذلك الحين وصرح به في قوله:
يا من يعز علينا ان نفارقهم * وجداننا كل شئ بعدكم عدم وقوله:
ارى النوى تقتضيني كل مرحلة * لا تستقل بها الوخادة الرسم لئن تركن ضميرا عن مأمننا * ليحدثن لمن ودعتهم ندم إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا * ان لا تفارقهم فالراحلون هم وفي الصبح المنبي انه لما عزم أبو الطيب على الرحيل من حلب وذلك في سنة 346 لم يجد بلدا إليه أقرب من دمشق لان حمص كانت من بلاد سيف الدولة فسار إلى الشام والقى بها عصى تسياره.
سفره إلى مصر واتصاله بكافور وكان بدمشق يهودي من أهل تدمر يعرف بابن ملك من قبل كافور ملك مصر فالتمس من المتنبي ان يمدحه فثقل عليه فغضب ابن ملك وجعل كافور الأخشيدي يكتب في طلب المتنبي من ابن ملك فكتب إليه ابن ملك ان أبا الطيب قال لم اقصد العبد وان دخلت مصر فما قصدي الا ابن سيده ونبت دمشق بأبي الطيب فسار إلى الرملة فحمل إليه أميرها الحسين بن طغج هدايا نفيسة وخلع عليه وحمله على فرس بموكب ثقيل وقلده سيفا محلى وكان كافور الأخشيدي يقول لأصحابه أ ترونه يبلغ الرملة ولا يأتينا وأخبر المتنبي انه واجد عليه ثم كتب كافور يطلبه من أمير الرملة فتوجه إلى مصر.
كافور الأخشيدي وكافور هذا عبد اسود خصي مثقوب الشفة السفلى بطين قبيح القدمين ثقيل البدن لا فرق بينه وبين الأمة وكان لقوم مصريين يعرفون ببني عياش يستخدمونه في مصالح السوق وكان ابن عياش يربط في رأسه حبلا إذا أراد النوم فإذا أراد منه حاجة جذبه بالحبل لأنه كان ثقيل النوم وكان غلمان ابن طغج يصفعونه في الأسواق فيضحك فقالوا هذا الأسود خفيف الروح وكلموا صاحبه في بيعه فوهبه لهم ومات سيده أبو بكر بن طغج وولده صغير وتقيد الأسود بخدمته واخذت البيعة لولده سيده وتفرد الأسود بخدمته وخدمة والدته فقرب من شاء وبعد من شاء فنظر الناس إليه من صغر هممهم وخسة أنفسهم فتسابقوا إلى التقرب إليه وسعى بعضهم ببعض حتى صار الرجل لا يامن أهل داره على اسراره وصار كل عبد بمصر يرى أنه خير من سيده ثم ملك الامر على ابن سيده وامر ان لا يكلمه أحد من مماليك أبيه ومن كلمه أتلفه. فلما كبر ابن سيده جعل يبوح بما في نفسه وهو على الشراب ففزع منه كافور وسمه فقتله وخلت له مصر والى ذلك يشير المتنبي في هجوه لكافور بقوله:
أ كلما اغتال عبد السوء سيده في أرضكم فله في مصر تمهيد وصول أبو الطيب إلى مصر ولما قدم عليه أبو الطيب بمصر اخلى له دارا وخلع عليه وحمل إليه آلافا من الدراهم فقال يمدحه هكذا في ديوانه وفي الصبح المنبي ان كافورا لمن ورد عليه المتنبي بمصر أمر له بمنزل ووكل به جماعة وأظهر التهمة له وطالبه بمدحه فلم يمدحه فخلع عليه فقال أبو الطيب يمدحه في جمادي الآخرة سنة 346 من قصيدة أولها:
كفى بك داء ان ترى الموت شافيا * وحسب المنايا ان يكن أمانيا تمنيتها لما تمنيت ان ترى * صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا إذا كنت ترضى ان نعيش بذلة * فلا تستعدون الحسام اليمانيا ولا تستطيلن الرماح لغارة * ولا تستجيدن العتاق المذاكيا فما ينفع الأسد الحياء من الطوى * ولا تتقى حتى تكون ضواريا إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى * فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا وللنفس أخلاق تدل على الفتى * أكان سخاء ما أتى أم تساخيا وجردا مددنا بين آذانها القنا * فبتن خفافا يتبعن العواليا تمشى بأيد كلما وافت الصفا * نقشن به صدر البزاة حوافيا وتنظر من سود صوادق في الدجى * يرين بعيدات الشخوص كماهيا وتنصب للجرس الخفي سوامعا * يخلن مناجاة الضمير تناجيا تجاذب فرسان الصباح أعنة * كان على الأعناق منها أفاعيا بعزم يسير الجسم في السرج راكبا * به ويسير القلب في الجسم ماشيا قواصد كافور توارك غيره * ومن قصد البحر استقل السواقيا فجاءت بنا انسان عين زمانه * وخلت بياضا خلفها وماقيا وهذا البيت كما قيل أحسن ما مدح به ملك اسود:
أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقا * إليه وذا اليوم الذي كنت راجيا لقيت المروري والشناخيب دونه * وجبت هجيرا يترك الماء صاديا أبا كل طيب لا أبا المسك وحده * وكل سحاب لا أخص الغواديا يدل بمعنى واحد كل فاخر * وقد جمع الرحمن فيك المعانيا وتحتقر الدنيا احتقار مجرب * يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا وقال يمدحه في سلخ شهر رمضان سنة 346:
من الجاذر في زي الأعاريب * حمر الحلى والمطايا والجلابيب ان كنت تسأل شكا في معارفها * فمن بلاك بتسهيد وتعذيب سوائر ربما سارت هوادجها * منيعة بين مطعون ومضروب وربما وخدت أيدي المطي بها * على نجيع من الفرسان مصبوب كم زورة لك في الأعراب خافية * أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب أزورهم وسواد الليل يشفع لي * وأنثني وبياض الصبح يغري بي قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها * وخالفوها بتقويض وتطنيب