يفيد الظن فضلا عن القطع أما لفظ قدس الله روحه فمن العبارات الشائعة بين المسلمين إلى اليوم ولفظة الفلك الدوار شائعة بين جميع الأمم وجميع أهل الملل وكذلك باقي العبارات التي جعلها إشارة إلى رموز الباطنية ومصطلحاتهم لا يستفاد منها ذلك بشئ من الدلالات ولو فرض موافقتها لبعض مصطلحاتهم فالموافقة شئ والدلالة شئ آخر وأما نفي البعد عن أن يكون له صلة بدعاة الإسماعيلية وأن يكون خروجه على السلطان مع بعض قبائل بني كلب لأجل ذلك فهو بعيد غاية البعد بل مقطوع بفساده فان الباطنية كان لهم دعاة في ذلك العصر في أكثر البلاد وكان خروجهم على السلطان بشكل مخصوص لا يشبه خروج المتنبي فقد كان فيهم الفدائية ويكون خروجهم بتدبير وترتيب وإقدام وجرأة وحزم فلذلك كانوا ينتصرون في أكثر وقائعهم كما يظهر من مراجعة كتب السير والتاريخ والمتنبي كان خروجه عاديا منبعثا عن هوس في رأسه ولم يسمع أنه عاونه أحد من الباطنية ولا أنه كان في أصحابه باطني واحد ولم يكن عن تدبير ورأي فلذلك قبض عليه بسرعة وحبس وتفرق من حوله فلا يشبه خروجه خروج الباطنية بوجه من الوجوه.
أما انتشاره مذهب القرامطة في ذلك العصر في الكوفة فغير صحيح لأن مخترع مذهب القرامطة وإن كان من قرية من سواد الكوفة لكن هذا المذهب لم ينتشر في الكوفة نفسها. أما نسبة الالحاد إليه على الاطلاق فنسبة باطلة والذين كانوا في عصره من حساده ومناوئيه لم يكن ليخفى عليهم الحاده لو كان في عقيدته شئ من ذلك ولم يكونوا ليسكتوا عنه فهم قد كانوا يبحثون عن معائبه أشد البحث وكانوا يعيرونه بان أباه سقاء ويصفونه بابن عيدان السقاء وقد هجوه بأقبح الهجو ولم يقل واحد منهم في حقه كلمة واحدة تدل على الالحاد فلو عرفوا منه الميل إلى الالحاد لما وصموه الا به لأنه كان كافيا في نبذه وسقوط محله على أن أشعاره شاهدة بعدم الالحاد فهو الذي يقول:
ولولا قدرة الخلاق قلنا * أعمدا كان خلقك أم وفاقا ويقول في حكمته تعالى:
ألا لا أرى الأحداث مدحا ولا ذما * فما بطشها جهلا ولا كفها حلما ويقول:
قد شرف الله أرضا أنت ساكنها * وشرف الناس إذ سواك انسانا ويقول:
ما أقدر الله أن يجزي خليقته * ولا يصدق قوما في الذي زعموا إلى غير ذلك أما ما يقال أنه يشف عن رقة دينه وضعف عقيدته فالصواب أنه لا دلالة له على ذلك أي لا نستطيع أن نجزم ولا أن نظن بان المتنبي كان معطلا أو شاكا في العقائد الحقة الاسلامية بصدور أمثال هذه الكلمات منه بعد ما صدر منه ما هو صريح في اعتقاده بالخالق وإظهاره التدين بدين الاسلام نعم في هذه الكلمات سوء أدب راجع إلى الدين قاد المتنبي إليه ما تعوده من الافراط في المبالغة في كل أمر تناوله بشعره وقلة المبالاة بعيوب شعره فجرى له في هذه الناحية ما جرى له في سائر النواحي التي اهملها في شعره ولم يهذبه منها فعابها عليه العائبون ليس أكثر من ذلك. أما قوله:
تمتع من سهاد أو رقاد * ولا تأمل كرى تحت الرجام فليس فيه إلا أن هذا النوم الذي تنامه في الدنيا لا يكون مثله وأنت في القبر.
جملة من أخبار المتنبي شهد المتنبي مع سيف الدولة جملة من وقائعه وحروبه وفي الصبح المنبي انه لما اتصل بسيف الدولة حسن موقعه عنده فقربه واجازه الجوائز السنية ومالت نفسه إليه فسلمه إلى الرواض فعلموه الفروسية والطراد والمثاقفة وقال حكي أنه صحب سيف الدولة في عدة غزوات إلى بلاد الروم ومنها غزوة العثاء التي لم ينج منها إلا سيف الدولة بنفسه وستة أنفار أحدهم المتنبي وأخذت عليهم الطرق الروم فجرد سيف الدولة سيفه وحمل على العسكر وفرق الصفوف وبدد الألوف. وحكى الرقي عن سيف الدولة قال كان المتنبي يسوق فرسه فاعتلقت بعمامته طاقة من الشجر المعروف بام غيلان فكان كلما جرى الفرس انتشرت العمامة وتخيل المتنبي ان الروم قد ظفرت به فكان يصيح الأمان يا علج قال سيف الدولة فهتفت به وقلت أيما علج هذه شجرة علقت بعمامتك فود أن الأرض غيبته فقال له ابن خالويه أيها الأمير أ ليس أنه ثبت معك حتى بقيت في ستة أنفار تكفيه هذه الفضيلة.
وفي الصبح المنبي: حكى أبو الفرج الببغا قال أذكر ليلة وقد استدعى سيف الدولة بدرة فشقها بسكين الدواة فمد أبو عبد الله بن خالويه طيلسانه فحثا فيه سيف الدولة صالحا ومددت ذيل دراعتي فحثا لي جانبا والمتنبي حاضر وسيف الدولة ينتظر منه أن يفعل مثل فعلنا فما فعل فغاظه ذلك فنثرها كلها على الغلمان فلما رأى المتنبي أنه قد فاتته زاحم الغلمان يلتقط معهم فغمزهم عليه سيف الدولة فداسوه فاستحيا ومضت به ليلة عظيمة وانصرف وخاطب أبو عبد الله بن خالويه سيف الدولة في ذلك فقال يتعاظم تلك العظمة وينزل إلى مثل هذه المنزلة لولا حماقته.
وحكى أبو الفرج أن أبا الطيب دخل مجلس ابن العميد وكان يستعرض سيوفا فلما نظر أبا الطيب نهض من مجلسه وأجلسه في دسته ثم قال له: اختر سيفا من هذه السيوف فاختار منها واحدا ثقيل الحلي واختار ابن العميد غيره فقال كل واحد منهما سيفي الذي اخترته أجود ثم اصطلحا على تجربتهما فقال ابن العميد فبما ذا نجربهما قال أبو الطيب في الدنانير يؤتى بها فينضد بعضها على بعض ثم نضرب به فان قدها فهو قاطع فاستدعى ا بن العميد عشرين دينارا فنضدت ثم ضربها أبو الطيب فقدها وتفرقت في المجلس فقام من مجلسه المفخم يلتقط الدنانير المتبددة فقال ابن العميد ليلزم الشيخ مجلسه فان أحد الخدام يلتقطها ويأتي بها إليك فقال بل صاحب الحاجة أولي. وفي اليتيمة سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول كان المتنبي قاعدا تحت قول الشاعر:
وأن أحق الناس باللوم شاعر * يلوم على البخل الرجال ويبخل وإنما أعرب عن طريقته وعادته بقوله:
بليت بلى الأطلال ان لم أقف بها * وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه قال وحضرت بحلب عنده يوما وقد أحضر مالا بين يديه من صلات سيف الدولة على حصير قد فرشه فوزن وأعيد إلى الكيس وتخللت قطعة كأصغر ما يكون بين خلال الحصير فأكب عليها بمجامعه ليستنقذها منه