من البغي فقمت وقام مشيعا لي إلى الباب فأقسمت عليه حتى رجع وانتهى الخبر إلى الوزير المهلبي فاتتني رسله ليلا فاتيته وأخبرته بالقصة فكان من سروره وابتهاجه بما جرى ما بعثه على مباكرة معز الدولة فقال له أ علمت ما كان من فلان والمتنبي فقال نعم قد شفى منه صدورنا.
وفي اليتيمة عن أبي بكر الخوارزمي وفي الصبح المنبي وربما زاد أحدهما عن الاخر: انه لما قدم أبو الطيب بغداد وترفع عن مدح الوزير المهلبي ذهابا بنفسه عن مدح غير الملوك شق ذلك على المهلبي فاغرى به شعراء بغداد حق نالوا من عرضه وتباروا في هجائه، وفيهم ابن الحجاج وابن سكرة الهاشمي والحاتمي فلم يجبهم ولم يفكر فيهم، وقيل له في ذلك فقال: اني فرغت من اجابتهم بقولي لمن هو ارفع طبقة في الشعر:
ارى المتشاعرين غروا بذمي * ومن ذا يحمل الداء العضللا ومن يك ذا فم مر مريض * يجد مرا به الماء الزلالا وقولي:
أ في كل يوم تحت ضبني شويعر * ضعيف يقاويني قصير يطاول لساني ينطق صامت عنه عادل * وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل واتعب من ناداك لا تجيبه * وأغيظ من عاداك من لا تشاكل وما التيه طبي فيهم غير انني * بغيض إلي الجاهل المتعاقل وقولي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص * فهي الشهادة لي باني كامل قال: وبلغ أبا الحسين بن لنكك بالبصرة ما جرى على المتنبي من وقيعة شعراء بغداد فيه واستحقارهم له كقولهم فيه:
اي فضل لشاعر يطلب الفضل * من الناس بكرة وعشيا عاش حينا يبيع بالكوفة الماء * وحينا يبيع ماء المحيا وكان ابن لنكك حاسدا له طاعنا عليه هاجيا إياه زاعما ان أباه كان سقاء بالكوفة فشمت به وقال:
قولا لأهل زمان لا خلاق لهم * ضلوا عن الرشد من جهل بهم وعموا أعطيتم المتنبي فوق منيته * فزوجوه برغم أمهاتكم لكن بغداد جاد الغيث ساكنها * نعالهم في قفا السقاء تزدحم قال ومن قوله فيه:
متنبيكم ابن سقاء كوفان * ويوحى من الكنيف إليه كان من فيه يسلح الشعر حتى * سلحت فقحة الزمان عليه ومن قوله فيه أيضا:
ما أوقح المتنبي * فيما حكى وادعاه أبيح مالا عظيما * حتى أباح قفاه يا سائلي عن غناه * من ذاك كان غناه إن كان ذاك نبيا * فالجاثليق اله ومما هجي به المتنبي قول ابن الحجاج:
يا ديمة الصفع صبي * على قفا المتنبي ويا قفاه تقدم * حتى تصير بجنبي ان كنت أنت نبيا * فالقرد لا شك ربي خروج أبي الطيب من بغداد قال في اليتيمة والصبح وبين كلاميهما تفاوت: ثم إن أبا الطيب اتخذ الليل جملا وفارق بغداد متوجها إلى حضرة أبي الفضل ابن العميد مراغما للمهلبي الوزير فورد أرجان واحمد مورده.
إباء المتنبي عن مدح الصاحب فيحكى ان الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد طمع في زيارة المتنبي إياه بأصبهان واجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان وهو إذ ذاك شاب وحاله حويلة والبحر دجيلة ولم يكن استوزر بعد، فكتب إليه يلاطفه في استدعائه ويضمن له مشاطرته جميع ماله فلم يقم له المتنبي وزنا ولم يجبه عن كتابه ولا إلى مراده وقصد حضرة عضد الدولة بشيراز، هكذا في اليتيمة، وهو يدل على أن الصاحب كاتبه إلى أرجان فلم يعرج عليه وسافر من أرجان إلى شيراز، وقيل إن المتنبي قال لأصحابه ان غليما معطاء بالري يريد ان أزوره وامدحه ولا سبيل إلى ذلك، فاتخذه الصاحب غرضا يرشقه بسهام الوقيعة ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته وينعى عليه سيئاته وهو اعرف الناس بحسناته واحفظهم لها وأكثرهم استعمالا إياها وتمثلا بها في محاضراته ومكاتباته وكان مثله معه كما قال الشاعر:
يقال لما وقع البزاز في * الثوب علمنا أنه من حاجته قال المؤلف عمل الصاحب رسالة صغيرة في انتقاداته على المتنبي وهي مطبوعة، وأورد محصلها الثعالبي في اليتيمة وذكر جملة من الانتقادات الحاتمي في مناظرته المتقدمة مع المتنبي، وإذا فرضنا ان الذي دعا الصاحب إلى عمل هذه الرسالة هو استياؤه من المتنبي حيث تعاظم عن مدحه فانا نجده لم يتحامل عليه بالباطل في شئ منها ولم يظلمه بحرف واحد جاء فيها ولم يعبه الا بما هو عيب لا يمكن للمتنبي ولا لغيره ان يعتذر منه وانصفه فيما وصفه وهذه مفخرة للصاحب في كفه نفسه عند الغضب والحنق عن تجاوز الحد والتحامل، كما يجري لأكثر الناس في مثل هذه الحال. قال الصاحب في صدر تلك الرسالة: كنت ذاكرت بعض من يتوسم بالأدب الاشعار وقائليها والمجودين فيها، فسألني عن المتنبي فقلت: انه بعيد المرمى في شعره كثير الإصابة في نظمه، الا انه ربما يأتي بالفقرة الغراء مشفوعة بالكلمة العوراء، فرأيته قد هاج وانزعج وحمي وتأجج وادعى ان شعره مستمر النظام متناسب الأقسام، ولم يرض حتى تحداني فقال: إن كان الأمر كما زعمت فأثبت في ورقة ما تنكره وقيد بالخطة ما تذكره لتتصفحه العيون وتسبكه العقول ففعلت وان لم يكن تطلب العثرات من شيمتي ولا تتبع الزلات من طريقتي وقد قيل: اي عالم لا يهفو وأي صارم لا ينبو وأي جواد لا يكبو، وانما فعلت ما فعلت لئلا يقدر هذا المعترض اني ممن يروي قبل ان يروى ويخبر قبل ان يخبر فاستمع وأنصت واعدل وأنصف، فما أوردت فيه الا قليلا ولا ذكرت من عظيم عيوبه الا يسيرا، وقد بلينا بزمن زمن يكاد المنسم فيه يعلو الغارب، ومنينا باعيار أغمار اغتروا بمادح الجهال لا يضرعون لمن حلب الأدب أفاويقه والعلم أشطره، لا سيما على الشعر فهو فويق الثريا وهم دون الثرى، وقد يوهمون انهم يعرفون، فإذا حكموا رأيت بهائم مرسنة وأنعاما مجفلة.
وصول المتنبي إلى ابن العميد بأرجان يظهر من ديوان المتنبي ان ابن العميد راسل المتنبي من أرجان إلى