غير اختيار قبلت برك بي * والجوع يرضي الأسود بالجيف كن أيها السجن كيف شئت فقد * وطنت للموت نفس معترف لو كان سكناي فيك منقصة * لم يكن الدر ساكن الصدف أقول قوله غير اختيار البيت: يكشف عن علو نفسه وشدة أنفته المتجاوزة حد الاعتدال، فأي غضاضة عليه في قبول بر صديقه حتى يقول إنه قبله عن غير اختيار وانه بمنزلة الجيفة: والجوع يرضي الأسود بالجيف.
ما كان فيه من الضيق قبل اتصاله بسيف الدولة وكان في أول امره في ضنك وشدة قبل اتصاله بسيف الدولة قال الثعالبي في اليتيمة: وكان كثيرا ما يتجشم أسفارا بعيدة أبعد من آماله ويمشي في مناكب الأرض ويطوي المناهل والمراحل ولا زاد الا من ضرب الحراب على صفحة المحراب (1) * ولا مطية الا الخف أو النعل كما قال:
لا ناقتي تقبل الرديف ولا * بالسوط يوم الرهان أجهدها شراكها كورها ومشفرها * زمامها والشسوع مقودها وكما قال في شكوى الدهر ووصف الخف:
أظمتني الدنيا فلما جئتها * مستسقيا مطرت علي مصائبا وحبيت من خوص الركاب بأسود * من دارس فغدوت امشي راكبا وكما قال يصف قدرته على المشي:
ومهمه جبته على قدمي * تعجز عنه العرامس الذلل إذا صديق نكرت جانبه * لم تعيني في فراقه الحيل في سعة الخافقين مضطرب * وفي بلاد من أختها بدل وشتان ما بين حاله هذه والحال التي قال فيها:
وعرفاهم باني من مكارمه * اقلب الطرف بين الخيل والخول قال: وكان قبل اتصاله بسيف الدولة يمدح القريب والغريب ويصطاد الكركي والعندليب، قال ويحكى ان علي بن منصور الحاجب لم يعطه على قصيدته فيه الا دينارا واحدا، فسميت الدينارية وهي التي أولها:
لمن الشموس الجانحات غواربا * اللابسات من الحرير جلاببا يقول فيها:
حال متى علم ابن منصور بها * رجع الزمان إلي منها تائبا اه وبالجملة فقد كان قبل اتصاله بسيف الدولة في حال سيئة، وسيف الدولة هو الذي أعلى شانه وشهر امره وأظهر محاسن شعره.
طموح المتنبي إلى معالي الأمور والرياسة والولاية كان هذا الطموح فيه في كل حالاته وفي جميع أدوار حياته من صغره إلى كبره بالغا إلى الغاية، فكان معجبا بنفسه ويلهج دائما في أشعاره بالحرب والقتال ولا يرى أن أحدا يشبهه في هذا الكون، ففي ديوانه انه قيل له وهو في المكتب: ما أحسن هذه الوفرة فقال:
لا تحسن الوفرة حتى ترى * منشورة الظفرين يوم القتال على فتى معتقل صعدة * يعلها من كل وافي السبال وقال في صباه من أبيات: نفس تصغر نفس الدهر من كبر * لها نهى كهله في سن أمرده وقال أيضا في صباه من أبيات:
محبي قيامي ما لذا لكم النصل * بريئا من الجرحى سليما من القتل امط عنك تشبيهي بما وكأنما * فما أحد فوقي ولا أحد مثلي وقال أيضا في صباه:
إلى اي حين أنت في زي محرم * وحتى متى في شقوة والى كم فالا تمت تحت السيوف مكرما * تمت وتقاصي الذل غير مكرم فثب واثقا بالله وثبة ماجد * يرى الموت في الهيجا جني النحل في الفم وقال أيضا في صباه من قصيدة:
مفرشي صهوة الحصان ولكن * قمفصي مسرودة من حديد أين فضلي إذا اقتنعت من الدهر * بعيش معجل التنكيد عش عزيزا أو مت وأنت كريم * بين طعن القنا وخفق البنود لا كما قد حييت غير حميد * وإذا مت مت غير فقيد فاطلب العز في لظى ودع الذل * ولو كان في جنان الخلود لا بقومي شرفت بل شرفوا بي * وبنفسي فخرت لا بجدودي وبهم فخر كل من نطق الضاد * وعوذ الجاني وغوث الطريد إن أكن معجبا فعجب عجيب * لم يجد فوق رأسه من مزيد وفي اليتيمة: ما زال في برد صباه إلى أن أخلق برد شبابه وتضاعفت عقود عمره يدور حب الولاية والرياسة في رأسه ويظهر ما يضمر من كامن وسواسه في الخروج على السلطان والاستظهار بالشجعان والاستيلاء على بعض الأطراف ويستكثر من التصريح بذلك في مثل قوله:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر * فالآن أقحم حتى لات مقتحم لأتركن وجوه الخيل ساهمة * والحرب أقوم من ساق على قدم بكل متصلت ما زال منتظري * حتى أدلت به من دولة الخدم شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة * ويستحل دم الحجاج في الحرم وقوله:
سأطلب حقي بالقنا ومشائخ * كأنهم من طول ما التثموا مرد ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا * كثير إذا شدوا قليل إذا عدوا وطعن كان الطعن لا طعن بعده * وضرب كان النار من حره برد إذا شئت حفت بي على كل سابح * رجال كان الموت في فمها شهد وقوله:
ولا تحسبن المجد زقا وقينة * فما المجد الا السيف والفتكة البكر وتضريب أعناق الملوك وان ترى * لك الهبوات السود والعسكر المجر وتركك في الدنيا دويا كأنما * تداول سمع المرء أنمله العشر وقوله:
وإن عمرت جعلت الحرب والدة * والسمهري أخا والمشرفي أبا بكل أشعث يلقى الموت مبتسما * حتى كان له في موته إربا قح يكاد صهيل الخيل يقذفه * من سرجه مرحا للعز أو طربا فالموت اعذر لي والصبر أجمل بي * والبر أوسع والدنيا لمن غلبا وقوله وهو يرثي جدته أم امه التي ماتت فرحا بوصول كتابه إليها