بصحيح فقد مدح ابن العميد وهو ليس بملك بل وزير وإذا كان المتنبي لا يريد مدح معز الدولة ولا المهلبي فما الذي جاء به إلى بغداد وهو لا يجئ إلى بلد إلا لمدح واستفادة مال فمن الذي كان يريد مدحه في بغداد غير هذين فظاهر الحال يدل على أنه ما قصد بغداد إلا لمدح أحد هذين وكلام الحاتمي يدل على أنه كان قصده مدح المهلبي ولعله لما عرف عنه من الجود دون معز الدولة وإذا كان الأمر كذلك فما الذي صرفه عن مدح المهلبي وأفسد الحال بينه وبينه حتى احتاج إلى أن يخرج من بغداد شبه الهارب كما ستعرف لا يظهر سبب ذلك واضحا من كلام المؤرخين وتعليل غيظ المهلبي منه بعدم مدحه له لا يكاد يصح لما عرفت فلا بد أن يكون هناك سبب آخر أوجب فساد الحال بينه وبينه، وتدل قصة الحاتمي الآتية على أن معز الدولة ووزيره كانا ناقمين على المتنبي محبين للوقيعة فيه، ويدل على ذلك أيضا ما سيأتي من أنه اتخذ الليل جملا، وخرج من بغداد مراغما للمهلبي، فذلك يدل على أن خروجه من بغداد كان شبيها بالهرب أما الخليفة العباسي فلم يكن له من الشأن في تلك الأيام ما يحمل المتنبي على مدحه.
قصة الحاتمي مع المتنبي والحاتمي: هو أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر الكاتب اللغوي البغدادي والحاتمي نسبة إلى أحد أجداده، كان أديبا لغويا اخباريا فاضلا من حذاق أهل اللغة والأدب، شديد العارضة، حسن التصرف في الشعر، موف على كثير من شعراء عصره، له عدة تصانيف منها الموضحة يصف فيها ما جرى بينه وبين المتنبي ويظهر سرقاته وعيوب شعره، ومنها الحاتمية في مدح المتنبي عملها بعد ما وفد على المتنبي ورأى فصاحته وحسن براعته.
قال الحاتمي: لما ورد أحمد بن الحسين المتنبي مدينة السلام منصرفا من مصر ومتعرضا للوزير المهلبي بالتخييم عليه والمقام لديه، التحف رداء الكبر، وأذال ذيول التيه، وصعر خده، ونأى بجانبه، وكان لا يلقى أحدا إلا ويزدريه، يخيل إليه أن العلم مقصور عليه، والشعر بحر لم يغترف نمير مائه غيره، وروض لم يجن نواره سواه، فعبر على ذلك مديدة أجررته رسن الجهل فيها فظل يمرح في تيهه، حتى تخيل أنه السابق الذي لا يجارى وثقلت وطأته على أهل الأدب، فطأطأ كل منهم رأسه وخفض جناحه وطامن على التسليم له جأشه، وتخيل الوزير المهلبي أن أحدا لا يقدر على مساجلته ومجاراته ولا يقوم بشئ من مطاعنه، وللرؤساء مذاهب في تعظيم من يعظمونه، وساء معز الدولة أحمد بن بويه أن يرد عن حضرة عدوه سيف الدولة رجل فلا يكون في مملكته أحد يماثله في صناعته، ولم يكن هناك مزية يتميز بها أبو الطيب من الهجين الجذع من أبناء الأدب، فضلا عن العتيق القارح إلا الشعر، فنهدت له متتبعا عواره ومتعقبا آثاره ومقلما أظفاره ومطفئا ناره ومهتكا استاره ومذيعا أسراره وناشرا مطاويه وممزقا جلباب مساويه، متحينا أن تجمعنا دار يشار إلى ربها فاجري أنا وهو في مضمار يعرف فيه السابق من المسبوق، فلما لم يتفق ذلك قصدت موضعه وتحتي بغلة سفواء وبين يدي عدة من الغلمان، فألفيت هناك فتية تأخذ عنه شيئا من شعره، فحين أوذن بحضوري واستؤذن عليه لدخولي نهض عن مجلسه مسرعا إلى بيت بازائه وأعجلته نازلا عن البغلة وهو يراني لانتهائي بها إلى حيث أخذها طرفه ودخلت فأعظمت الجماعة قدري واجلسوني في مجلسه، وإذا تحته عباءة بالية قد أكلها الدهر فهي رسوم خالية فلما جلست أقبل وعليه سبعة أقبية كل منها بلون في أشد ما يكون من الحسن يحفها فضل اللباس والوقت أحر أيام الصيف فنهضت فوفيته حق السلام غير مشاح له في القيام مع علمي أنه لم يدخل المخدع إلا لئلا ينهض عند موافاتي وحين لقيته تمثلت بقول الشاعر:
وفي الممشى إليك علي عار * ولكن الهوى منع القرارا فتمثل بقول الآخر:
يشقى رجال ويشقى آخرون بهم * ويسعد الله أقواما بأقوام وليس رزق الفتى من فضل حياته * لكن جدود وأرزاق باقسام كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد * يرمي فيحرزه من ليس بالرامي فجلست وجلس وأعرض عني ساعة لا يعيرني فيها طرفه ولا يسألني عما قصدت له، فكدت أتميز غيظا ولمت نفسي على قصده واستخففت رأيي في زيارة مثله وهو مقبل على جماعة يقرؤون عليه أشياء من شعره، وكل منهم يوقظه ويغمزه ويومي إليه بما يجب عليه ان يفعله ويعرفه من مكاني وهو يأبي الا ازورارا ونفارا، ثم ثنى بصره إلي فوالله ما زادني على أن قال:
أيش خبرك فقلت خير لولا ما جنيت على نفسي من قصدك وكلفت قدمي في المصير إلى مثلك، ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى القرار، وقلت له:
ابن لي عافاك الله مم تيهك وخيلاؤك وعجبك وما الذي يوجب ما أنت عليه من التجبر والتنمر هل لك نسب في الأبطح تبحبحت به بحبوحة الشرف وتوسطت به واسطة السلف، أو علم أصبحت به علما يومى إليه وتقف الهمم عليه أو سلطان تسلطت بعزه هل أنت الا وتد بقاع يا لله!
استنت الفصال حتى القرعى واني اسمع جعجعة ولا ارى طحنا وانك لو قدرت نفسك بقدرها لما عدوت أن تكون شاعرا مكتسبا. فامتقع لونه وغص بريقه وجحظت عيناه وسقط في يده، وجعل يلين في الاعتذار، فقلت يا هذا! ان جاءك شريف في نسبه تجاهلت نسبه أو عظيم في أدبه صغرت أدبه أو متقدم عند سلطانه خفضت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك، كلا والله! لكنك مددت الكبر سترا على نقصك، وضربته رواقا دون جهلك. فعاود الاعتذار واخذت الجماعة في الرغبة إلي في مياسرته، وقبول عذره، وانا على شاكلة واحدة في تقريعه وتوبيخه، وهو يؤكد الأقسام انه لم يعرفني، فأقول: يا هذا أ لم استأذن عليك باسمي ونسبي أ ما في هذه الجماعة من يعرفك بي لو كنت جهلتني، وهب أن ذلك كذلك أ لم ترني ممتطيا بغلة رائعة وبين يدي غلمان عدة، أ ما شاهدت لباسي أ ما شممت نشري أ ما راعك من أمري ما أتميز به عن غيري وهو في أثناء ما أكلمه يقول: خفض عليك ارفق اكفف من غربك أردد من سورتك استان فان الأناة من شيم مثلك، فلان شماسي بعض الليان وأعرضت عنه ساعة، ثم قلت له: أشياء تختلج في صدري من شعرك أحب ان أراجعك فيها، قال وما هي؟ قلت اخبرني عن قولك:
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة * ففي الناس بوقات لها وطبول أ هكذا يمدح الملوك وعن قولك:
ولا من في جنازتها تجار * يكون وداعها نفض النعال أ هكذا ترثي أم ملك أما والله لو قلت هذا البيت في أدنى عبيدها لكان قبيحا وأخبرني عن قولك:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع * فان لحت حاضت في الخدور العواتق