وعلى ذكر قول المتنبي: وإذا أتتك مذمتي الخ نقول إن ما يحكى من أن أبا العلاء المعري كان يوما في مجلس الشريف المرتضى فجرى ذكر المتنبي فهضم الشريف من جانبه فقال المعري لو لم يكن له من الشعر الا قوله:
لك يا منازل في القلوب منازل لكفاه فغضب المرتضى وامر باخراجه وقال أ تدرون ما عنى انه عنى قوله: وإذا أتتك مذمتي البيت الظاهر أنه غير صحيح أولا لان الشريف المرتضى بعلمه ومعرفته وانصافه لم يكن ليهضم المتنبي حقه ثانيا ان أبا العلاء اعرف بجلالة قدر المرتضى وعلو مكانه من أن يواجهه بهذا الكلام وهو القائل فيه من قصيدة يرثي بها والده:
سبق الرضي المرتضى وتلاهما * الراضي فيا لثلاثة أحلاف أنتم بني النسب القصير وطولكم * باد على الكبراء والاشراف فالظاهر أن القصة موضوعة وفي الصبح المنبي عن صاحب الحدائق ان الفتح بن خاقان ذكر ابن الصائغ في كتابه قلائد العقيان فذمه وقال فيه رمد عين الدين وكمد نفوس المهتدين، لا يتطهر من جنابة ولا يظهر مخائل انابة فمر عليه ابن الصائغ وهو جالس في جماعة فسلم على القوم وضرب على كتف الفتح وقال إنها شهادة يا فتح ومضى فلم يدر أحد ما قال الا الفتح فتغير لونه فسئل عن ذلك فقال إنه أشار إلى قول المتنبي وإذا أتتك الخ جوابا عما وصفته به في قلائد العقيان ومما يشبه هذا ما في الصبح المنبي قيل إنه دخل على سيف الدولة بعض الشعراء فقال أيها الأمير بما ذا تفضل علي ابن عيدان السقا قال بحسن شعره قال اختر اي قصيدة له حتى أعارضها بأحسن منها فقال عليك بقصيدته التي أولها:
بعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي * وللحب ما لم يبق مني وما بقي فلم يرها من مختاراتها وعلم أنه أشار إلى قوله فيها: إذا شاء ان يلهو بلحية أحمق البيت فامتنع عن معارضتها.
وقال ابن بسام في الذخيرة ان أبا عبد الله بن شرف قال يوما للمأمون بن ذي النون أيام خدمته إياه وقد اجروا ذكر أبي الطيب فذهبوا في وصفه كل مذهب ان رأى المأمون ان يشير إلى اي قصيدة شاء من شعر أبي الطيب حتى أعارضها بقصيدة تنسي اسمه وتعفي رسمه فتثاقل ابن ذي النون عن جوابه وألح أبو عبد الله حتى احرج ابن ذي النون فقال له دونك قوله: لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي وسئل ابن ذي النون اي شئ أقصده إلى تلك القصيدة فقال لان أبا الطيب يقول فيها: إذا شاء ان يلهو الخ.
وقال أبو الطيب من قصيدة كهذه التي تقدمت جمع فيها بين الغث والسمين:
قد علم البين منا البين أجفانا * تدمى وألف في ذا القلب احزانا أملت ساعة ساروا كشف معصمها * ليلبث الحي دون السير حيرانا ولو بدت لأتاهتهم فحجبها * صون عقولهم من لحظها صانا وهذه الأبيات الثلاثة لو صحت معانيها لكان في سقم تراكيبها كفاية ثم قال:
بالواخدات وحادبها وبي قمر * يظل من وخدها في الخدر حشيانا والحشيان بالحاء المهملة من أخذه البهر وهو من الغريب الوحشي الذي لا يأنس به السمع ولا يقبله القلب وبعضهم يرويه خشيان بالخاء وهو لا يزيده حسنا ثم قال وأجاد:
قد كنت أشفق من دمعي على بصري * فاليوم كل عزيز بعدكم هانا ثم أراد ان يزبد على الشعراء في وصف المطايا فاتى كما قاله الصاحب بأخزى الخزايا فقال:
لو استطعت ركبت الناس كلهم * إلى سعيد بن عبد الله بعرانا قال الصاحب ومن الناس امه فهل ينشط لركوبها والممدوح لعل له عصبة لا يريد ان يركبوا إليه فهل في الأرض أفحش وأوضع من هذا قال الثعالبي ثم أراد ان يستدرك هذه الطامة بقوله:
فالعيس أعقل من قوم رأيتهم * عما يراه من الاحسان عميانا ثم قال فأجاد به أولية الممدوح:
ان كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا * في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا كان ألسنهم في النطق قد جعلت * على رماحهم في الطعن خرصانا كأنهم يردون الموت من ظما * أو ينشقون من الخطي ريحانا ثم قال:
خلائق لو حواها الزنج لانقلبوا * ظمي الشفاه جعاد الشعر غرانا قال الصاحب الزنجي لا يوجد الا جعد الشعر فكيف ينقلبون عن الجعودة إلى الجعودة وقد احتج عنه أصحاب المعاني بما يطول ذكره.
والعجب كل العجب من خاطر يقدح بمثل قوله في قصيدة:
وملمومة زرد ثوبها * ولكنه بالقنا مخمل يفاجئ جيشا بها حينه * وينذر جيشا بها القسطل ثم يتصور هذا الكلام الغث الرث فيتبعه به حيث يقول:
جعلتك في القلب لي عدة * لأنك باليد لا تجعل ولو قاله بعض صبيان المكاتب لاستحيا منه وهذه الأبيات من قصيدة قالها في سيف الدولة وهو بميافارقين وقد ضربت له خيمة كبيرة وأشاع الناس ان مقامه يتصل أياما فهبت ريح شديدة فسقطت الخيمة وتكلم الناس عند سقوطها فقال أبو الطيب:
أ يقدح في الخيمة العذل * وتشمل من دهرها يشمل وتعلو الذي زحل تحته * محال لعمرك ما تسأل فلم لا تلوم الذي لامها * وما فص خاتمه يذبل ولما أمرت بتطنيبها * أشيع بأنك لا ترحل فما اعتمد الله تقويضها * ولكن أشار بما تفعل وقوله: فما فص خاتمه يذبل اختلف المفسرون فيه فقيل الضمير في خاتمه راجع إلى سيف الدولة: اي لا يبلغ يذبل مع عظمه فص خاتمه وقيل راجع إلى اللائم اي كما أن فص خاتم هذا اللائم لا يمكن ان يوازي يذبلا فكذلك لا يمكن ان تعلو الخيمة من تحته زحل ولا ينبغي للشعر ان يكون بعيدا عن درك الافهام معناه بحيث تختلف في تفسيره الأقوال، وربما كانت كلها خلاف ما اراده الشاعر. ومن جمعه بين الغث والسمين قوله:
بحب قاتلتي والشيب تغذيتي * هواي طفلا وشيبي بالغ الحلم فما أمر بربع لا أسائله * ولا بذات خمار لا تريق دمي