فقتلوا حوالي ثلاثين منهم وأسروا بعضهم. ثم يقول: وعهد أي الإسكندر الاشراف على الأعمال إلى اثنين من قواده وزحف بقسم من الجيش إلى بلاد العرب.
وكلام هذا المؤرخ يؤيد ما ورد من قبل من قتل العامليين ثلاثين رجلا من جيش الإسكندر، ويزيد على ذلك أنهم أسروا بعض الأسرى.
إذن فان بني عاملة لم يقفوا متفرجين على حصار الإسكندر لصور بل تحدوا الفاتح الكبير، وكانت حصيلة هذا التحدي قتلا في رجاله وأسرا لهم.
وكان من الطبيعي أن لا يسكت الإسكندر، لهذا نراه يقود حملة على العامليين انتقاما لقتلاه وأسراه. ويدلنا على عظم خطر بني عاملة يومذاك أن الإسكندر لم يعهد في قيادة تلك الحملة إلى بعض قواده بل قادها بنفسه.
وهكذا تبين أن هجرة بني عاملة إلى هذا الجبل تعود إلى ما قبل سنة 332 قبل الميلاد، إذ أن حصار الإسكندر لصور كان في هذه السنة، وكانوا هم موجودين في جبلهم في هذا التاريخ. ولكن لم يتبين لنا وسنظل نجهل: إلى أي مدى من الزمن يمتد تاريخ هذه الهجرة قبل سنة 332.
قلت فيما تقدم أن هجرة بني عاملة من اليمن لم تكن الهجرة الوحيدة، بل كانت معها هجرات لقبائل أخرى وعددت منهم بني قيلة واللخميين والغساسنة، وأقول الآن أنه كان لكل من هذه القبائل الثلاث ذكر متواصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، فقد سيطر بنو قيلة الأوس والخزرج على المدينة ثم دخلوا في صراع مع اليهود المتحكمين اقتصاديا فيها، ثم كانوا أول المجيبين للدعوة الاسلامية، وبرجالهم قامت معركة بدر الحاسمة في تاريخ الاسلام. كما قام في اللخميين ملوك يخضعون للسيطرة الفارسية، كان لهم شعراؤهم الوافدون عليهم. وكذلك الحال في الغساسنة الذين خضع ملوكهم للسيطرة الرومية ووفد عليهم الشعراء، وحسب الأولين النابغة الذبياني واعتذارياته للنعمان، وحسب الآخرين حسان بن ثابت الذي يقول فيهم:
لله در عصابة نادمتهم * يوما بجلق في الزمان الأول بيض الوجوه كريمة أحسابهم * شم الأنوف من الطراز الأول أبناء جفنة حول قبر أبيهم * قبر ابن مارية المعم المخول أما بنو عاملة فقد انقطعت أخبارهم قبل الاسلام، لولا هذا الذي ذكره السمعاني في كتاب الأنساب عن الظرب بن حسان بن أذينة العاملي: أنه كان ملك العرب وقت كان ملك الفرس سابور.
وهذا يدل على أنه كان للعامليين ملوك مما كان للمناذرة، والغساسنة، وأن ملوكهم انوا يسمون ملوك العرب. ويبدو أن قرب الغساسنة من دمشق وقرب المناذرة من المدائن عاصمة الفرس حفظا أخبار القبيلتين، وان انقطاع العامليين في جبالهم أضاع أخبارهم.
وورد ذكر بني عاملة عرضا في الحديث عن غزوة تبوك حين جمع الروم جموعهم بقيادة هرقل، إذ ذكر المؤرخون أن هرقل أجلب معه لخم وجذام وعاملة وغسان.
وجاء الاسلام وقامت الدولة الأموية في دمشق فإذا بشاعر عاملي ينحدر من تلك القرى الجبلية البعيدة ينحدر إلى دمشق فيقتحم بلاط الأمويين مستعدا لمنافسة الثلاثي المخيف: جرير والفرزدق والأخطل، فيثير هذا الاقتحام الشاعر جريرا فيهزأ بهذا القروي الجبلي ويصمم على أن يضربه من أول لقاء ضربة قاضية ترده إلى قريته في جبال بني عاملة فلا يجرؤ على منافسة المتفوقين، فصرخ جرير في وجه عدي بن الرقاع العاملي ببيت من الشعر تقضي الكياسة بان لا نذكر إلا صدره. صرخ جرير قائلا: يقصر باع العاملي عن العلى، فإذا بالعاملي يصرخ في وجه جرير بصوت أعلى ببيت من الشعر تقضي الكياسة أيضا بان لا نذكر إلا عجزه: أنت امرؤ لم تدر كيف تقول فيبهت جرير ويعترف بالهزيمة فيجيب: بل أنا امرؤ لم أدر كيف أقول.
ومنذ تلك الساعة يصبح عدي بن الرقاع العاملي المنافس الخطير للذين ظنوا أن لا منافس لهم.
وتتتالى الأسماء العاملية في العصور الاسلامية المختلفة في شتى ميادين السياسة والعلم والأدب والشعر والحكمة، فنسمع بأسماء بكار بن هلال العاملي وشهاب بن إبراهيم العاملي وهمامة بن معقل العاملي وقبيس العاملي وأبو سلمة الحكم العاملي إلى عشرات أمثالهم في كل عصر. ثم نسمع أسماء أخرى منسوبة لا إلى الجبل وحده بل إلى قرى فيه مثل: علي الصائغ الجزيني العاملي وأبو معن الصرفندي العاملي وطومان المناري العاملي والشيخ حسين التبنيني العاملي والشيخ إبراهيم البازوري العاملي وغيرهم.
وتظل العصور تتوالى وتظل كلمة العاملي تتوالى حتى تجيء السنة 1501 فإذا بهبة عاملية كبرى تهب على الدنيا، فقد دعي العامليون إلى المعاونة في تأسيس الدولة الصفوية الناشئة في إيران، إذ أن تلك الدولة قامت أول ما قامت على السيطرة العسكرية البحتة وكانت في أمس الحاجة إلى رجال العلم والفكر يدعمون قيامها وينشرون دعوتها، فوجدت بغيتها في جبل عامل الذي كان يغص بمثل هؤلاء الرجال فاستدعتهم واحدا بعد الآخر فاقبلوا إليها مغتبطين بهذا الاستدعاء وذهب بعضهم بدون استدعاء لأن مجال العمل العلمي الثقافي في جبلهم كان محدودا، ولأنهم أحيانا كانوا يعيشون في خوف لا ينتهي بعد أن استشهد اثنان من أكابرهم في فترتين متباعدتين. وكانوا حيث حلوا لا يتخلون عن الانتساب إلى جبلهم، فكان اسم الواحد منهم يقرن دائما بلقب العاملي، فإذا بكلمة العاملي تتوج فيما تتوج اسم شيخ الاسلام في العاصمة قزوين، وهذا المنصب هو أرفع منصب علمي في المملكة. وإذا بكلمة العاملي أيضا تتوج اسم شيخ الاسلام في هرات بأفغانستان.
وإذا بكلمة العاملي فوق هذا في مرسوم يصدره الملك لتعيين هذا العاملي في منصب يجعله الرجل الثاني في الدولة بعد الملك، ويشير في هذا المرسوم إلى صلاحياته الواسعة ومنها: أن منصوبه لا يعزل ومعزوله لا ينصب.
وإذا بكلمة العاملي تتلقاك حيث اتجهت: في حلقات التدريس، في منابر المساجد، في صوامع المعابد، تحت عناوين الكتب، في إجابات المستفتين، في مجالس المتقاضين.
وإذا بهؤلاء العامليين النازحين من جبل عامل يقلبون الدنيا هناك رأسا على عقب ويحولون مجرى التاريخ ويحولون أمة بكاملها من رأي إلى رأي فتنقاد إليهم الجماهير آخذة بفكرتهم متمسكة بطريقتهم.
ثم لا تزال كلمة العاملي تمتد وتنتشر حتى تصل إلى الهند، فإذا بها مقرونة إلى اسم صاحب الصدارة العظمى في حيدرآباد عاصمة الدكن.