أصحابه واختلط القوم بعضهم من بعض فقصده معقل من بين أصحابه، فضربه ضربة على أم رأسه فجدله قتيلا. وحمل أهل الكوفة على أهل الأهواز من بني ناجية، فقتل منهم من قتل وهرب من هرب وأسر من أسر من بني ناجية، وأمر معقل بن قيس بهؤلاء الأسارى فجمعوا ثم أمر برأس الخريت ابن راشد فاخذ واحتوى على أمواله، وسار إلى علي بالأسارى والأموال.
وكان مصقلة بن هبيرة الشيباني أيضا عاملا لعلي بن أبي طالب ع على بلد من بلاد الأهواز، فنظر إلى هؤلاء الأسارى الذين قد أتى بهم معقل بن قيس، كأنه اتقى عليهم أن يقتلوا، فقال لمعقل:
ويحك يا معقل! هل لك أن تبيعني هؤلاء الأسارى ولا تمضي بهم إلى أمير المؤمنين؟ فاني خائف أن يعجل عليهم بالقتل. قال معقل: قد فعلت فاشترهم مني إذا حتى أبيعك. قال له مصقلة: قد اشتريتهم منك بخمسمائة ألف درهم، قال: قد بعتك فهات المال! فقال مصقلة: غدا أعطيك المال، فسلم إليه معقل بن قيس الأسارى، فأعتقهم مصقلة بأجمعهم، فمضوا حتى لحقوا ببلادهم.
فلما كان الليل هرب مصقلة إلى البصرة إلى عبد الله بن العباس، وكتب معقل بن قيس إلى عبد الله بن عباس يخبره بخبر مصقلة وما فعل. فدعا ابن عباس مصقلة فقال: هات المال! فقال: نعم وكرامة، إن معقل بن قيس أراد أن يأخذ المال مني وأنا فلم أحب أن أعطيه ذلك، ولكن أدفع هذا المال إليك لأنك ابن عم أمير المؤمنين وعامله على البلاد، قال ابن عباس: فقد أحسنت إذا وأصبت فهات المال.
وانصرف مصقلة إلى منزله، فلما كان الليل هرب إلى الكوفة إلى علي بن أبي طالب، قال: وكتب معقل بن قيس إلى علي يخبره بذلك، وكتب أيضا عبد الله بن عباس إلى علي بذلك. قال: فدعا به علي وقال: هات المال يا مصقلة! فقال: نعم يا أمير المؤمنين! إن معقل بن قيس وعبد الله بن عباس أرادا مني أن أدفع المال إليهما وأنت أولى بحقك منهما، قال علي: قد أحسنت إذا وأصبت فهات المال! فقال: وجه من يحمل المال، فدفع إليه في ذلك اليوم مائة ألف درهم وبقيت عليه أربعمائة ألف درهم.
فلما كان الليل هرب إلى معاوية، وطلبه علي فلم يقدر عليه، وكان نعيم بن هبيرة أخو مصقلة عند علي بن أبي طالب ومن خيار أصحابه، فكتب إلى أخيه مصقلة بهذين البيتين يقول:
تركت نساء الحي بكر بن وائل * وأعتقت سبيا من لؤي بن غالب وفارقت خير الناس بعد محمد * لمال قليل لا محالة ذاهب ولم يبق بالعراق أحد من ربيعة إلا وذكر مصقلة بن هبيرة بكل قبيح إذ فارق عليا وصار إلى معاوية.
فلما فرع نعيم من شعره أقبل إلى جماعة من بني عمه من بني بكر بن وائل فقال: إنه قد وردت علي أبيات من عند أخي مصقلة، وقد علمت أنه يحب الرجوع إلى العراق، وأنا والله مستح من أمير المؤمنين أن أكلمه فيه، ولكن أحب أن تكتبوا إليه كتابا عن جميعكم، وليكن ذلك عن رأي أمير المؤمنين.
فاجتمع نفر من ربيعة إلى علي فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن نعيم بن هبيرة مستح منك لما فعل مصقلة أخوه، وقد أتانا الخبر اليقين بان مصقلة ليس يمنعه من الرجوع إلى العراق إلا الحياء، ولم يبسط منذ خرج من العراق علينا لسانا ولا يدا، ولا نحب أن يكون رجلا منا مثل مصقلة عند معاوية، فان أذنت لنا كتبنا إليه كتابا من جماعتنا وبعثنا إليه رسولا فلعله أن يرجع! فقال علي:
اكتبوا ما بدا لكم وما أراكم تنتفعون بالكتاب. فقال الحضين بن منذر السدوسي: يا معشر بني بكر بن وائل! إن أمير المؤمنين قد أذن لكم في الكتاب فقلدوني كتابكم، فقالوا: قد فعلنا ذلك فاكتب ما بدا لك.
فكتب إليه الحضين بن المنذر: أما بعد، يا مصقلة! فان كتابنا هذا إليك من جماعة بني بكر بن وائل، وقد علمنا بأنك لم تلحق بمعاوية رضى منك بدينه ولا رغبة في دنياه، ولم يقطعك عن علي طعن فيه ولا رغبة عنه، ولكنك توسطت أمرا قويت فيه بديا ثم ضعفت عنه أخيرا، وكان أول أمرك أنك قلت أفوز بالمال وألحق بمعاوية، ولعمري ما استبدلت الشام بالعراق، ولا السكاسك بربيعة، ولا معاوية بعلي، ولا أصبت دنيا بهما، وإن أبعد ما يكون من الله أقرب ما يكون من معاوية، فارجع إلى مصرك فقد غفر لك الذنب وحمل عنك الثقل، واعلم بان رجعتك اليوم خير منها غدا، وكانت أمس خير منها اليوم، وإن كان قد غلب عليك الحياء من أمير المؤمنين فما أنت فيه أعظم من الحياء، فقبح الله امرءا ليس فيه دنيا ولا آخرة والسلام.
قال: ثم أثبت في أسفل الكتاب هذه الأبيات:
أمصقل لا تعدم من الله مرشدا * ولا زلت في خفض من العيش أرغدا وإن كنت قد فارقت قومك خزية * يمد بها الشانئ إلى رهطك اليدا وكنت إذا ما ناب أمر كفيته * ربيعة طرا غائبين وشهدا تدافع عنها كل يوم كريهة * صدور العوالي والصفيح المهندا يناديك للعلياء بكر بن وائل * فتثني لها في كل جارحة يدا فكنت أقل الناس في الناس لائما * وأكثرهم في الناس خيرا معددا تخف إلى صعلوكنا فتجيبه * فكنت بهذا في ربيعة سيدا ففارقت من قد يحسر الطرف دونه * جهارا وعاديت النبي محمدا فان تكن الأيام لاقتك غيرة * قم الآن فارجع لا تقولن غدا غدا ولا ترض بالأمر الذي هو صائر * فقد جعل الله القيامة موعدا فلما ورد هذا الكتاب على مصقلة بن هبيرة وقرأه ونظر في الشعر، أقبل على الرسول فقال: هذا كلام الحضين بن المنذر، وشعره لم يشبه كلام أحد من الناس، فقال له الرسول: صدقت هذا كلام الحضين، فاتق الله يا مصقلة! وانظر فيما خرجت منه وفيما صرت إليه، وانظر من تركت ومن أخذت، ثم اقض بعد ذلك على هواك، أين الشام من العراق! وأين معاوية من علي! وأين المهاجرون والأنصار من أبناء الطلقاء والأحزاب! وأنت بالعراق تتبع وأنت بالشام تتبع.
فسكت مصقلة عن الرسول فلم يجبه بشئ، ثم أخذ الكتاب فاتى به معاوية وأسمعه الشعر، فقال له معاوية: يا مصقلة! أنت عندي غير ظنين، فإذا أتاك شئ من هذا فاخفه عن أهل الشام، فقال: أفعل ذلك إن شاء الله.
ثم رجع مصقلة وأقبل على الرسول فقال له: يا أخا بني بكر! إني إنما هربت بنفسي من علي خوفا منه، ولا والله ما ينطلق لساني بعيبه ولا ذمه ولا قلت قط فيه حرفا أعلم أنه يسوءه ذلك، وقد أتيتني بهذا الكتاب فخذ الجواب