يفعلها. فقال له بعضهم: أيها الأمير! إن الله عز وجل يقول ولا تزر وازرة وزر أخرى فان كان عبيد الله ابن الحر فعل ما فعل، فما ذنب القرابات وما ذنب النساء أن يحبسن بلا جرم كان منهن؟ ثم تكلم إبراهيم بن الأشتر فقال: أصلح الله الأمير! إنه وإن كان عبيد الله بن الحر قد فعل هذا الفعل فقد فعل كذلك بالمختار، وذلك أن المختار عمد إلى امرأته أم توبة الجعفية فحبسها في السجن، فلعله قد بلغك ما كان منه أنه كبس الكوفة صباحا في أصحابه وكسر باب السجن وأخرج امرأته قسرا، ثم لم يرض بذلك حتى أخرج كل من كان في السجن من النساء وهو في ذلك يقاتل أصحاب المختار، حتى تخلص سالما هو وأصحابه. فقال ابن الزبير: قاتله الله من رجل فما أشجع قلبه، والله! ما رأيت ولا سمعت برجل في دهرنا هذا اجتمع فيه ما في ابن الحر، من كرم نفس وشجاعة قلب وصباحة وجه وعفة فرج، غير أنه لا يحتمل على هذه الأفاعيل التي يفعلها.
وعزم مصعب علي أن يوجه إليه بجيش كثير من الكوفة، وعلمت بذلك بنو عمه فكتبوا إليه، فلما نظر في كتب بني عمه تبسم لذلك وأنشأ يقول:
يخوفني بالقتل قومي وإنما * أموت إذا حان الكتاب المؤجل لعل القنا تدني بأطرافها الغنى * فنحيا كراما أو نكر فنقتل ألم تر أن الفقر يزري باهله * وأن الغنى فيه العلى والتجمل إذا كنت ذا رمح وسيف مصمم * على سابح أدناك مما تؤمل وإنك إن لم تركب الهول لم تنل * من المال ما يرضي الصديق ويفضل إذا المرء لاقاني ومل حياته * فلست أبالي أينا كان أول ثم إن مصعبا كتب إليه كتابا: أما بعد، يا بن الحر! فان حلمي هو الذي يردعني من أن أعجل عليك، ولو أردت ذلك لما عظم علي أمرك ولو كنت في جيش بعدد خوص العراقين، فالله الله في نفسك انظر لها غيرك، واقبل إلى العاقبة، واكفف عما أنت عليه، وسلني أي عمل شئت وأحببت حتى أوليك إياه، لا يعترض عليك معترض، وإن أبيت سرت إليك بنفسي وخيلي ورجلي، واستعنت الله عليه والسلام.
قال: فكتب إليه ابن الحر: أما بعد، يا بن الزبير! فان كتابك ورد علي فقرأته، وفهمت ما فيه وما دعوتني إليه من طاعتك والكف عن محاربتك، ووالله لقد دعاني إلى نصره من هو خير منك أما وأبا وأصلا وحسبا وفرعا وحسبا الحسين بن علي وفاطمة الزهراء فلم أنصره، وإني على ذلك لمن النادمين، وأظن أني لمن الخاسرين، إلا أن تداركني رحمة رب العالمين، وأما وعيدك إياي المسير إلي بخيلك ورجلك فأنت وأصحابك أهون علي من جرامقة الجزيرة على عرب الحجاز والسلام. ثم أثبت في أسفل كتابه أبياتا مطلعها:
أتاني وعيد ابن الزبير فلم أرع * وما مثل قلبي بالوعيد مروع إلى آخرها.
ثم مضى عبيد الله بن الحر فجعل يغير على السواد يمنة ويسرة، فيهزم الرجال ويحوي الأموال فيقسمها في أصحابه، ثم أمر فجعل يقطع البلاد، حتى صار إلى مدينة يقال لها تكريت على شاطئ الدجلة، وبها يومئذ عامل المهلب بن أبي صفرة فأخذه عبيد الله بن الحر فضرب عنقه صبرا (1)، ثم دخل إلى مدينة تكريت فاحتوى على أموالها. ثم سار منها يريد الموصل، وبها يومئذ المهلب بن أبي صفرة من قبل مصعب بن الزبير، فلما بلغه خبر عبيد الله بن الحر سار إليه في أربعة آلاف فارس. وبلغ ذلك عبيد الله بن الحر، فرجع إلى تكريت فنزلها، ثم أرسل إلى من كان مع المهلب من بني عمه أن اكفوني أمركم ودعوني والمهلب، فاني أقوم به وبحربه إن شاء الله تعالى.
ثم يذكر ابن أعثم وقعة لعبيد الله مع المهلب بن أبي صفرة، لم يذكرها أحد غيره من المؤرخين اكتفينا بالإشارة إليها.
ثم يقول ابن أعثم:
ثم أقبل راجعا نحو الكوفة وهو يقول:
وأبيض قد نبهته بعد هجعة * فقام يشد السرج والمرء ناعس عليه دلاص كالإضاة وبيضة * تضيء كما يذكى من النار قابس ثم أقبل حتى نزل قريبا من الكوفة، وبلغ ذلك مصعب بن الزبير فدعا بحجار بن أبجر العجلي فضم إليه خمسة آلاف فارس ووجه بهم نحو عبيد الله بن الحر، فسارت الخيل من الكوفة حتى وافته بموضع يقال له دير الأعور، ودنا القوم بعضهم من بعض فاقتتلوا، فقتل من أصحاب عبيد الله بن الحر جماعة وفشت فيهم الجراحات، وذلك في أول النهار، ثم وقعت الهزيمة بعد ذلك على أصحاب مصعب بن الزبير، فانهزموا حتى تقاربوا من الكوفة وقد قتل منهم من قتل، واحتوى عبيد الله بن الحر على ما قدر عليه من دواب القوم وأسلحتهم وأسلابهم.
ثم أقبل ابن الحر حتى نزل بموضع يقال له صرصر فعسكر هنالك، وجعل مصعب بن الزبير يجمع له الجموع حتى اجتمع إليه نيف عن سبعة آلاف فارس، فضمهم مصعب بن الزبير إلى مسلم بن عمرو الباهلي والحجاج بن حارثة الخثعمي. وسارت العساكر من الكوفة نحو عبيد الله بن الحر حتى وافوه على نهر صرصر، وقد التام إليه الناس فصار في ألف وثلاثمائة فارس ما منهم إلا فارس مذكور. ودنا القوم بعضهم من بعض، واستأمن قوم من أصحاب مصعب بن الزبير إلى عبيد الله بن الحر، فلما رأى أصحاب مصعب ذلك وقع فيهم الفشل، فانهزموا متفرقين في البلاد، وغنم ابن الحر وأصحابه ما كان لهم من مال ودواب وسلاح، ثم أنشأ وجعل يقول أبياتا مطلعها:
نفيت لصوص الأرض ما بين عانة * إلى جازر حتى مدينة دسترا إلى آخرها.
ثم كتب مصعب بن الزبير إلى يزيد بن رؤيم الشيباني يأمره بالمسير إلى عبيد الله بن الحر، وكان يزيد بن رؤيم يومئذ بالمدائن من قبل مصعب بن الزبير، فلما ورد عليه كتاب مصعب سار إلى عبيد الله بن الحر حتى وافاه في موضع يقال له باجسرى والتقى القوم هنالك، فاقتتلوا ساعة، فقتل من أصحاب يزيد بن رؤيم جماعة، وانهزم الباقون، وأتبعه عبيد الله بن الحر حتى وافاه بالمدائن. وتحصن يزيد بن رؤيم في قصر المدائن، وأحدق عبيد الله بن الحر وأصحابه بالقصر حتى أصبحوا، ثم إنهم استمدوا باهل مدينة الرومية فاجتمع أهل المدينتين جميعا على عبيد الله بن الحر وأصحابه، فقاتلهم ساعة فعلم أنه لا طاقة له بهم، فجعل يقاتلهم هو وأصحابه حتى تخلص من المدائن سالما.