ثم تقدم إلى سورا وبها يومئذ عبد الرحمن العجلي من قبل مصعب بن الزبير، فخرج إلى محاربة عبيد الله بن الحر وأصحابه، فقال ابن الحر لأصحابه: فداكم أبي وأمي! احملوا عليهم حملة صادقة، فلعلي أن أغنمكم مال سورا! قال: فصبر القوم بعضهم لبعض ساعة، ثم انهزم أهل سورا حتى دخلوا إلى المدينة، واحتوى ابن الحر وأصحابه على أسلابهم وأموالهم ودوابهم، ثم أنشأ ابن الحر يقول أبياتا مطلعها:
سل ابن رؤيم عن جلادي وموقفي * بإيوان كسرى لا أوليهم ظهري إلى آخرها (1).
ثم سار عبيد الله بن الحر حتى نزل مدينة الأنبار، فلما رآه أهلها كأنهم اتقوه وهموا بالهرب من المدينة، فنادى فيهم ابن الحر: ليس عليكم من باس! أقيموا بمدينتكم أنتم آمنون! فتراجع القوم إلى منازلهم وأسواقهم، ثم أنهم حملوا إليه الميرة والهدايا، فقبلها منهم وقال: إن كانت لكم حاجة فاسألوني إياها! قال: فتقدم إليه جماعة منهم من أهل الأنبار فقالوا: نعم، أيها الأمير! إن حاجتنا إليك حاجة لله فيما يرضى الله، ولك فيها ثواب عظيم. قال: وما ذاك؟ قالوا: ههنا حبشي يقال له الغداف يقطع الطريق وحده ما بين مدينتنا هذه إلى مدينة هيت، ثم إنه يأتي مدينتنا هذه ليلا ونهارا، فلا يقدم عليه أحد لما يعلمون من بأسه وشدته، فإذا بلغه أن امرأة حسناء في موضع من المواضع هجم على تلك الدار فيأخذ المرأة ويكتف زوجها ثم يفجر بها، فان تكلم زوجها قتله ثم يخرج، فلا يقدر أحد عليه، فان رأيت أن تريحنا منه وأهل هذه البلدة يقرون لك بالعبودية إلى آخر الدهر!
قال: فتغير وجه عبيد الله بن الحر وأدركته الغيرة والأنفة، ثم أقبل على أهل الأنبار فقال: وأين يكون هذا الأسود؟ فقالوا: في وادي كذا وكذا قريبا من شاطئ الفرات. فدعا عبيد الله بن الحر بفرسه فاستوى عليه وأخذ سيفه وتقلد رمحه، ثم أقسم على أصحابه أنه لا يتبعه أحد منهم، ثم خرج من الأنبار في جوف الليل وهو يقول:
وأبيض قد نبهته بعد هجعة * وقد لبس الليل القميص الأرندجا (2) وجدت عليه مغرما فقبضته * وفرجت ما يرجا به أن يفرجا وكنت إذا قومي دعوني لنجدة * شددت نطاقي حيث أدعى وأسرجا فاكشف غماها وأكسب مغنما * وأطفي الذي قد كان فيها مؤججا ثم سار حتى صبح الوادي الذي فيه الغداف، فنزل عن فرسه إلى ماء يجري في أول الوادي، فتوضأ ثم وثب فصلى الفجر وعنان فرسه في يده. ثم وثب فاستوى على فرسه وجعل يتلفت يمنة ويسرة فلا يرى أحدا حتى إذا بزغت الشمس وإذا هو بالغداف وقد خرج من شعب من شعاب ذلك الوادي على فرس له أدهم أغر محجل، وفي يده رمح له طويل، وعلى رأسه عمامة له حمراء، وإذا هو أسود آدم، مشرف عظيم من الرجال. فوقف له ابن الحر حتى حاذاه وصار قبالته، فقال له الغداف أيها الرجل! من أين أقبلت؟
قال: من الأنبار، قال: فأين تريد؟ قال: أريد إلى هيت، قال الغداف:
بلغني أن عبيد الله بن الحر قد نزل بالأنبار، فأين يريد؟ قال: لا علم لي بذلك، فقال الغداف: لقد بلغني عنه شدة وفروسية وإقدام على الرجال، ولعله ما نازل بطلا، ولقد كنت أحب أن أزوره وأراه، وأنظر إلى جلادته ومنازلته للرجال! قال: ثم جعل يساير عبيد الله ويسأله عن حاله، حتى إذا أصحر عن الوادي قال له الغداف: انزل عن فرسك وانج! فقال له ابن الحر أو تعرفني؟ قال: لا، قال: فانا ابن الحر وإياك أردت يا كلب! ثم حمل عليه واختلفا بطعنتين، فطعنه ابن الحر طعنة نكسه عن فرسه، ثم نزل إليه فذبحه واحتز رأسه ووضعه في مخلاة، وأخذ سلاحه وأقبل يريد الأنبار، وأنشأ يقول:
إني رأيت بواد غابر رجلا * مثل الهزبر إذا ما ساور البطلا ضخم الفريسة لو أبصرت قامته * وسط الرجال إذا شبهته جملا سايرته ساعة ما بي مخافته * إلا التلفت حولي هل أرى دغلا أنشأ يسائلني عنه وأطعنه * فخر يهوي على الخيشوم منجدلا دهدهته بين أحجار وأودية * لا يعلم الناس غيري علم ما فعلا يدعى الغداف وقد مالت علاوته * إن الغداف وربي وافق الأجلا ثم وافى عبيد الله حتى دخل الأنبار وأمر برأس الغداف فنصب على باب المدينة. وفرح أهل الأنبار بذلك فرحا شديدا ثم حملوا إليه هدايا كثيرة من الأطعمة والأشربة وغير ذلك، فقبلها منهم.
وأقبل رجل من الأنبار وقال: أيها الأمير هل تعلم بالعراق من يدانيك أو يقوم مقامك؟ فقال: نعم، رجلا واحدا يقال له جرير بن مشجعة الجعفي، وهو اليوم مع بني عمه بالكوفة، ولو أنه معي أو في أصحابه أربعة مثله لكبست الكوفة فقتلت مصعبا واحتويت على ماله، وعسى أن يكون ذلك إن شاء الله. ثم جعل يقول:
لو أن لي مثل جرير أربعة * صبحت ببيت المال حتى أجمعه ولم يهلني مصعب ومن معه * نعم الفتى ذلكم ابن مشجعه ثم أقبل عبيد الله بن الحر على أصحابه وقال: تهيئوا الآن! فاني قد عزمت أن أسير بكم إلى الشام إلى عبد الملك بن مروان وأسأله المعونة على مصعب بن الزبير، فلعلي أشفي بنفسي منه ومن أصحابه قبل الموت. ثم نادى في أصحابه وترحل نحو الشام، وأنشأ يقول أبياتا مطلعها:
وبالشام إخواني وجل عشيرتي * وقد جعلت نفسي إليك تطلع إلى آخرها.
ثم سار حتى صار إلى دمشق وبها يومئذ عبد الملك بن مروان، فوقف ببابه ثم استأذن له، ودخل فسلم، فرد عليه عبد الملك السلام، ثم أدناه وأقعده معه على سريره، ثم دعا بالخلع فخلع عليه، وأمر له بمائة ألف درهم، فقال له عبيد الله: يا أمير المؤمنين! لم أزرك للمال، إنما أريد أن توجه معي رجالا أقاتل بهم مصعب بن الزبير، فلست بآيس من أخذ العراق لك يا أمير المؤمنين! فاجابه عبد الملك بن مروان إلى ذلك، ثم أمر له بمائة ألف درهم أخرى، وأمر له ولأصحابه بالمنازل والأنزال، وأجرى عليهم الأرزاق. ثم أمر له بأربعة آلاف رجل من أهل الشام، فأعطاهم الأرزاق وضمهم إليه وأمرهم بالمسير معه.
فسار القوم مع عبيد الله حتى صاروا إلى الرقة، ثم انحدروا على الفرات