مصعب بن الزبير عيشه، ولأدعون أهل السواد والناحيتين إلى المشمرخ (1) ولأحتوين على الفرات إلى هيت وعانات، ولآخذن خراج الشوش وما يليها من الرساتيق والقرى، ولأكرمن من جاءني من الفتيان والصعاليك بالأموال والخيل والأثاث الفاخر إن شاء الله ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فلا تجزع يا بن عمر، فما أقرب الفرج لأنه لم تكن شدة قط إلا جعل الله من بعدها فرجا ورخاء، ثم أنشأ في ذلك يقول أبياتا مطلعها:
أقول له صبرا عطي فإنما * هو السجن حتى يجعل الله مخرجا إلى آخرها (2).
فلما بلغ قومه هذه القصيدة كأنها حركتهم، وقال بعضهم لبعض: إن كان غدا فاجتمعوا بنا حتى ندخل على هذا الأمير نكلمه في صاحبنا، فان هو شفعنا فيه وأخرجه من سجنه وإلا عاودناه في ذلك. ثم بعثوا إلى عبيد الله بن الحر إننا عزمنا على أننا نسير إليه ونكلمه في أمرك، وقد أحببنا أن يكون معنا أبو النعمان إبراهيم بن الأشتر، فلا عليك أن تبعث إليه رسولا وتسأله أن يركب معنا، فإنه عظيم القدر عند الأمير، ولعله أن يستحي منه فيشفعه فيك. فكتب عبيد الله بن الحر إلى إبراهيم بن الأشتر، ثم أثبت في رقعته هذه الأبيات:
بان الملامة لا تبقي * ولا تدع ولا يزيدك إلا أنها جزع لم يبق معذرة سعد فاعذرها * ولا مزاد وكانوا بئس ما صنعوا والحارثيون لم أرض الذي نطقوا * عند الأمير وشر المنطق الشنع تبادروا أنهم ناتي أميرهم * وللمذلة في أعناقهم خضعوا فقد وردتم فذوقوا غب مصدركم * لا يهنكم بعده ري ولا شبع ما ذا يقولون وابن الحر محتبس * همت به مذحج والأنف مجتدع قد جللت مذحج ما ليس يغسله * ماء الفرات لأن لم يشهد النجع الضاربون من الأقوام هامهم * بحيث يقرع عن هاماتها الصلع شم العرانين سادات كأنهم * بيض السيوف التي لم يعلها الطبع أرجو قيام أبي النعمان إذ وهبوا * ومثله بجسيم الأمر يضطلع فان يفك عبيد الله من كبل * فليس بعدك في إخراجه طمع فاجهد فدى لك والأقوام كلهم * ما بعدها من مساعي الخير متبع فابسط يديك فان الخير مبتدر * علياءه وجدود القوم تصطرع قد قدمت لك مسعاة ومأثرة * من مالك وكذاك الخير منتجع والأمن والخوف أيام مداولة * بين الرجاء وبين الضيق متسع فلما وردت هذه الأبيات على إبراهيم بن الأشتر كأنه تحرك لذلك، ثم بعث إلى قومه وعشيرته فجمعهم. قال: واجتمعت أيضا وجوه اليمن، وأقبل بهم حتى دخل على مصعب بن الزبير، فلما قضى التسليم قال: أعز الله الأمير! إنه لو وجد أحد على عبيد الله بن الحر كوجدي عليه لما كلمه أبدا من أجل الفعل الذي فعله بي في أيام المختار، وأما في وقته هذا فلا أعلم ذنبا يجب عليه الحبس، ووالله أعز الله الأمير! لقد وجهت إليه وأنت بالبصرة، فقدم عليك في أربعمائة فارس لا يرى منهم إلا الحدق في تعبية حسنة من الآلة والسلاح الكامل، ولقد بلغني أنه تجهز إليك يوم تجهز بنيف على مائتي ألف درهم، ثم قدم معك هذه البلدة فقاتل المختار قتالا عجيبا فعجب منه أهل بلده ولن يروك إلى هذه الغاية، وليس يجب على الأمير أصلحه الله أن يجمع عليه أمرين: ذهاب مال وضيق حبس والسلام.
قال: فلما سمع مصعب بن الزبير كلام إبراهيم بن الأشتر ورأى من معه من بني عمه وعشيرته كأنه استحي ولم يحب أن يردهم بغير قضاء حاجة، فقال: إني قد سمعت كلامك ومقالتك أبا النعمان، وأنا نازل عند ما تحب.
قال: فجزاه ابن الأشتر ومن معه خيرا وأثنوا عليه جميلا، وانصرفوا إلى منازلهم. ثم بعثوا إلى عبيد الله بن الحر أن قد صرنا إلى الأمير أصلحه الله، وكلمناه في أمرك، فأجابنا إلى كل ما نحب ولكن لا عليك أن تكتب إليه كتابا لطيفا تعتذر إليه فيه مما فرقت به عنده والسلام. قال: فعندها كتب عبيد الله بن الحر إلى مصعب بن الزبير هذه الأبيات:
تذكرت قبل اليوم أية خلة * أضرت بحقي عندكم وهو واجب وما في قناتي من وصوم تعيبها * ولا ذم رحلي فيكم من أصاحب وتعلم إن كاتمته الناس أنني * عليك ولم أظلم بذلك عاتب وما أنا راض بالذي غيره الرضا * فلا تكذبنك ابن الزبير الكواذب رأيتك تعصيني وتشمت شانيا * كأني بما لم اجترم لك رائب فان كان من عندي فبين فإنني * لصرمكم يا بن الزبير لهائب وإن كان من غيري فلا تشمت العدى * بنا وتدارك دفع ما أنت قارب وإن كان هذا الصرم منك لعلة * فصرح ولا تخفي الذي أنت راكب ففي كل مصر قاسط تعلمونه * حريص على ما سرني لك راهب أرى الحرب قد درت عليك وفتنة * تضرم في الحافات منها المحاطب فحسبك قد جربتني وبلوتني * وقد ينفع المرء الكريم التجارب ألم تعلموا أني عدو عدوكم * وتشفي بنا في حربكم من تحارب أناضل عنكم في المغيب عشيرتي * وأما بنفسي دونكم فأضارب لكم بارد الدنيا ويصلى بحرها * إذا اعصى بالهاب السيوف القواضب فلسنا كراما إن رضينا بذاكم * ولم تتأهب في الحديد الكتائب ولولا أمير المؤمنين وبيعتي * لقد كثرت حولي عليك الجلائب قال: فلما وصلت هذه الأبيات إلى مصعب بن الزبير ونظر فيها، أرسل إلى عبيد الله بن الحر فأخرجه من محبسه وخلع عليه وحمله على فرس، وأمر له بمال. وسأله ابن الحر في ابن عمه عطية فاطلقه. قال: فصار ابن الحر إلى منزله.
فلما كان من الغد بعث إليه مصعب أني قد جعلت لك خراج بادوريا ونواحيها فهو لك ولمن أحببت من أهل بيتك أبدا ما دام لآل الزبير سلطان بالعراق. قال: ثم أرسل مصعب إلى عماله فصرفهم عن بادوريا، فاخذ (3) خراجها وقسمه في أصحابه وبني عمه، ثم قال: انظروا لا أدعو بأحد منكم في وقت من الأوقات إلا جاءني على فرس فاره وسلاح شاك، فاني قد عزمت على الخروج على مصعب بن الزبير، وعلى الغارة على البلاد، ولا أموت إلا كريما.