جهته سبحانه غير داخل تحت قوله " قل لو كان " وفيه زيادة مبالغة وتأكيد، والواو لعطف ما بعده على جملة مقدرة مدلول عليها بما قبلها: أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته لو لم يجئ بمثله مدادا ولو جئنا بمثله مدادا، والمدد الزيادة، وقيل عنى سبحانه بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو وإن كان واحدا فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من الفوائد، وقد عبرت العرب عن الفرد بلفظ الجمع. قال الأعشى:
ووجه نقي اللون صاف يزينه * مع الجيد لبات لها ومعاصم فعبر باللبات عن اللبة. قال الجبائي: إن قوله (قبل أن تنفد كلمات ربى) يدل على أن كلماته قد تنفد في الجملة، وما ثبت عدمه امتنع قدمه. وأجيب بأن المراد الألفاظ الدالة على متعلقات تلك الصفة الأزلية، وقيل في الجواب إن نفاد شئ قبل نفاد شئ آخر لا يدل على نفاد الشئ الآخر، ولا على عدم نفاده، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا تضبطها عقول البشر، أما أنها متناهية، أو غير متناهية فلا دليل على ذلك في الآية. والحق أن كلمات الله تابعة لمعلوماته، وهى غير متناهية، فالكلمات غير متناهية. وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد " ولو جئنا بمثله مددا " وهى كذلك في مصحف أبى، وقرأ الباقون " مددا " وقرأ حمزة والكسائي " قبل أن ينفد " بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية، ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يسلك مسلك التواضع، فقال (قل إنما أنا بشر مثلكم) أي إن حالي مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية، ومن كان هكذا فهو لا يدعى الإحاطة بكلمات الله إلا أنه امتاز عنهم بالوحي إليه من الله سبحانه فقال (يوحى إلى) وكفى بهذا الوصف فارقا بينه وبين سائر أنواع البشر، ثم بين أن الذي أوحى إليه هو قوله (إنما إلهكم إله واحد) لا شريك له في ألوهيته، وفى هذا إرشاد إلى التوحيد، ثم أمرهم بالعمل الصالح والتوحيد فقال (فمن كان يرجوا لقاء ربه) الرجاء توقع وصول الخير في المستقبل، والمعنى: من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين (فليعمل عملا صالحا) وهو ما دل الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) من خلقه سواء كان صالحا، أو طالحا، حيوانا أو جمادا، قال الماوردي: قال جميع أهل التأويل في تفسير هذه الآية: إن المعنى لا يرائي بعمله أحدا. وأقول: إن دخول الشرك الجلي الذي كان يفعله المشركون تحت هذه الآية هو المقدم على دخول الشرك الخفي الذي هو الرياء، ولا مانع من دخول هذا الخفي تحتها، إنما المانع من كونه هو المراد بهذه الآية.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (لكلمات ربى) يقول: علم ربى. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: يقول ينفد ماء البحر قبل أن ينفد كلام الله وحكمته. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله (فمن كان يرجوا لقاء ربه) الآية قال: أنزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله إلها غيره، وليست هذه في المؤمنين. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس قال " قال رجل: يا نبي الله إني أقف المواقف أبتغي وجه الله، وأحب ان يرى موطني، فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الآية (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) " وأخرج ابن منده وأبو نعيم في الصحابة وابن عساكر من طريق السدى الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لقالة الناس فلا يريد به الله، فنزل في ذلك (فمن كان يرجوا لقاء ربه) الآية. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: " قال رجل: يا رسول الله أعتق وأحب أن يرى، وأتصدق وأحب أن يرى، فنزلت (فمن كان يرجوا لقاء ربه) الآية " وهو مرسل. وأخرجه هناد في الزهد عنه أيضا. وأخرج ابن سعد وأحمد والترمذي وابن ماجة والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة: