ولد آدم (أن اتبع ملة إبراهيم) وأصل الملة اسم لما شرعه الله لعباده على لسان نبي من أنبيائه، قيل والمراد هنا اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لملة إبراهيم في التوحيد والدعوة إليه. وقال ابن جرير: في التبري من الأوثان والتدين بدين الإسلام، وقيل في مناسك الحج، وقيل في الأصول دون الفروع، وقيل في جميع شريعته إلا ما نسخ منها، وهذا هو الظاهر. وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاقتداء بالأنبياء مع كونه سيدهم فقال تعالى - فبهداهم اقتده -. وانتصاب (حنيفا) على الحال من إبراهيم، وجاز مجئ الحال منه، لأن الملة كالجزء منه، وقد تقرر في علم النحو أن الحال من المضاف إليه جائز إذا كان يقتضى المضاف العمل في المضاف إليه أو كان جزءا منه أو كالجزء (وما كان من المشركين) وهو تكرير لما سبق للنكتة التي ذكرناها (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) أي إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه. أو إنما جعل فرض تعظيم السبت وترك الصيد فيه على الذين اختلفوا فيه لا على غيرهم من الأمم.
وقد اختلف العلماء في كيفية الاختلاف الكائن بينهم في السبت، فقالت طائفة: إن موسى أمرهم بيوم الجمعة وعينه لهم وأخبرهم بفضيلته على غيره، فخالفوه وقالوا إن السبت أفضل، فقال الله له: دعهم وما اختاروا لأنفسهم.
وقيل إن الله سبحانه أمرهم بتعظيم يوم في الأسبوع، فاختلف اجتهادهم فيه، فعينت اليهود السبت لأن الله سبحانه فرغ فيه من الخلق، وعينت النصارى يوم الأحد لأن الله بدأ فيه الخلق، فألزم الله كلا منهم ما أدى إليه اجتهاده.
وعين لهذه الأمة الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلا منه ونعمة. ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شرائع إبراهيم، فأخبر الله سبحانه أنه إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ولم يجعله على إبراهيم ولا على غيره (وإن ربك ليحكم بينهم) أي بين المختلفين فيه (يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) فيجازى كلا فيه بما يستحقه ثوابا وعقابا، كما وقع منه سبحانه من المسخ لطائفة منهم والتنجية لأخرى، ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يدعو أمته إلى الإسلام فقال (ادع إلى سبيل ربك) وحذف المفعول للتعميم لكونه بعث إلى الناس كافة، وسبيل الله هو الإسلام (بالحكمة) أي بالمقالة المحكمة الصحيحة، قيل وهى الحجج القطعية المفيدة لليقين (والموعظة الحسنة) وهى المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي يستحسنها السامع وتكون في نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع بها. قيل وهى الحجج الظنية الاقناعية الموجبة للتصديق بمقدمات مقبولة، قيل وليس للدعوة إلا هاتان الطريقتان، ولكن الداعي قد يحتاج مع الخصم الألد إلى استعمال المعارضة والمناقضة ونحو ذلك من الجدل، ولهذا قال سبحانه (وجادلهم بالتي هي أحسن) أي بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة، وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقا وغرضه صحيحا. وكان خصمه مبطلا وغرضه فاسدا (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) لما حث سبحانه على الدعوة بالطرق المذكورة بين أن الرشد والهداية ليس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما ذلك إليه تعالى فقال (إن ربك هو أعلم) أي هو العالم بمن يضل ومن يهتدى (وهو أعلم بالمهتدين) أي بمن يبصر الحق فيقصده غير متعنت، وإنما شرع لك الدعوة وأمرك بها قطعا للمعذرة وتتميما للحجة وإزاحة للشبهة. وليس عليك غير ذلك، ثم لما كانت الدعوة تتضمن تكليف المدعوين بالرجوع إلى الحق فإن أبوا قوتلوا، أمر الداعي بأن يعدل في العقوبة فقال (وإن عاقبتم) أي أردتم المعاقبة (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) أي بمثل ما فعل بكم لا تجاوزوا ذلك. قال ابن جرير: أنزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداها إلى غيرها. وهذا صواب. لأن الآية وإن قيل إن لها سببا خاصا كما سيأتي، فالاعتبار بعموم اللفظ، وعمومه يؤدي هذا المعنى الذي ذكره، وسمى سبحانه الفعل الأول الذي هو فعل البادئ