قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة، ويجوز أن تكون ما موصولة والكذب منتصب بتصف: أي لا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه (هذا حلال وهذا حرام) فحذف لفظة فيه لكونه معلوما، فيكون قوله هذا حلال وهذا حرام بدلا من الكذب. ويجوز أن يكون في الكلام حذف بتقدير القول: أي ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم فتقول هذا حلال وهذا حرام، أو قائلة هذا حلال وهذا حرام، ويجوز أن ينتصب الكذب أيضا بتصف وتكون ما مصدرية: أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب. وقرئ الكذب بضم الكاف والذال والباء على أنه نعت للألسنة: وقرأ الحسن بفتح الكاف وكسر الذال والباء نعتا لما. وقيل على البدل من ما: أي ولا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام، واللام في (لتفتروا على الله الكذب) هي لام العاقبة لا لام العرض أي فيتعقب حديث ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه (إن الذين يفترون على الله الكذب) أي افتراء كان (لا يفلحون) بنوع من أنواع الفلاح وهو الفوز بالمطلوب، وارتفاع (متاع قليل) على أنه خبر مبتدأ محذوف. قال الزجاج: أي متاعهم متاع قليل، أو هو مبتدأ خبره محذوف: أي لهم متاع قليل (ولهم عذاب أليم) يردون إليه في الآخرة. ثم خص محرمات اليهود بالذكر فقال (وعلى الذين هادوا حرمنا) أي حرمنا عليهم خاصة دون غيرهم (ما قصصنا عليك) بقولنا - حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها - الآية، و (من قبل) متعلق بقصصنا أو بحرمنا (وما ظلمناهم) بذلك التحريم بل جزيناهم ببغيهم (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) حيث فعلوا أسباب ذلك فحرمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم. ثم بين سبحانه أن الافتراء على الله سبحانه ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة فقال (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة) أي متلبسين بجهالة، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة النساء (ثم تابوا من بعد ذلك) أي من بعد عملهم للسوء، وفيه تأكيد فإن ثم قد دلت على البعدية فأكدها بزيادة ذكر البعدية (وأصلحوا) أعمالهم التي كان فيها فساد بالسوء الذي عملوه، ثم كرر ذلك تأكيدا وتقريرا فقال (إن ربك من بعدها) أي من بعد التوبة (لغفور رحيم) كثير الغفران واسع الرحمة.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (وضرب الله مثلا قرية) قال: يعني مكة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية في الآية مثله وزاد فقال: ألا ترى أنه قال (ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه). وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: القرية التي قال الله (كانت آمنة مطمئنة) هي يثرب. قلت: ولا أدري أي دليل دله على هذا التعيين، ولا أي قرينة قامت له على ذلك. ومتى كفرت دار الهجرة ومسكن الأنصار بأنعم الله، وأي وقت أذاقها الله لباس الجوع والخوف، وهى التي تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد كما صح ذلك عن الصادق المصدوق. وصح عنه أيضا أنه قال:
" والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب) الآية قال: في البحيرة والسائبة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال:
قرأت هذه الآية في سورة النحل ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب (هذا حلال وهذا حرام) إلى آخر الآية فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا قلت: صدق رحمه الله، فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وآله سلم، كما يقع كثيرا من المؤثرين للرأي المقدمين له على الرواية، أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنة كالمقلدة. وإنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من جهالاتهم. فإنهم أفتوا بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير فضلوا وأضلوا، فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل: كبهيمة عمياء قاد زمامها * أعمى على عوج الطريق الجائر