التي لا تخفى على عاقل ولا تلتبس إلا على مخذول. وقريب من هذا من يقتدى بآراء الرجال المخالفة لما في كتاب الله سبحانه، ولما في سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ويؤثرها على ما فيهما، فإنه قد استجاب للباطل الذي لم تقم عليه حجة ولا دل عليه برهان، وترك الحجة والبرهان خلف ظهره كما يفعله كثير من المقتدين بالرجال المتنكبين طريق الحق بسوء اختيارهم، اللهم غفرا (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) يقال صرخ فلان إذا استغاث يصرخ صراخا وصرخا، واستصرخ بمعنى صرخ، والمصرخ المغيث، والمستصرخ المستغيث، يقال استصرخنى فأصرخته والصريخ: صوت المستصرخ، والصريخ أيضا: الصارخ وهو المغيث والمستغيث، وهو من أسماء الأضداد كما في الصحاح. قال ابن الأعرابي: الصارخ المستغيث، والمصرخ: المغيث. ومعنى الآية: ما أنا بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب، وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه، وفيه إرشاد لهم إلى أن الشيطان في تلك الحالة مبتلى بما ابتلوا به من العذاب محتاج إلى من يغيثه ويخلصه مما هو فيه، فكيف يطمعون في إغاثة من هو محتاج إلى من يغيثه؟ ومما ورد مورد هذه الأقوال من قول العرب قول أمية بن أبي الصلت:
فلا تجزعوا إني لكم غير مصرخ * وليس لكم عندي غناء ولا نفر و " مصرخي " بفتح الياء في قراءة الجمهور. وقرأ الأعمش وحمزة بكسر الياء على أصل التقاء الساكنين. قال الفراء: قراءة حمزة وهم منه، وقل من سلم عن خطأ. وقال الزجاج: هي قراءة رديئة ولا وجه لها إلا وجه ضعيف يعنى ما ذكرناه من أنه كسرها على الأصل في التقاء الساكنين. وقال قطرب: هذه لغة بنى يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء، وأنشد الفراء فيما ورد على هذه القراءة قول الشاعر:
قلت لها يا تاء هل لك في * قالت له ما أنت بالمرضى (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) لما كشف لهم القناع بأنه لا يغنى عنهم من عذاب الله شيئا، ولا ينصرهم بنوع من أنواع النصر، صرح لهم بأنه كافر بإشراكهم له مع الله في الربوبية من قبل هذا الوقت الذي قال لهم الشيطان فيه هذه المقالة، وهو ما كان منهم في الدنيا من جعله شريكا، ولقد قام لهم الشيطان في هذا اليوم مقاما يقصم ظهورهم ويقطع قلوبهم، فأوضح لهم أولا أن مواعيده التي كان يعدهم بها في الدنيا باطلة معارضة لوعد الحق من الله سبحانه وأنه أخلفهم ما وعدهم من تلك المواعيد ولم يف لهم بشئ منها، ثم أوضح لهم ثانيا بأنهم قبلوا قوله بما لا يوجب القبول، ولا ينفق على عقل عاقل لعدم الحجة التي لا بد للعاقل منها في قبول قول غيره، ثم أوضح ثالثا بأنه لم يكن منه إلا مجرد الدعوة العاطلة عن البرهان الخالية عن أيسر شئ مما يتمسك به العقلاء، ثم نعى عليهم رابعا ما وقعوا فيه، ودفع لومهم له وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم، لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت الذي لا يلتبس بطلانه على من له أدنى عقل، ثم أوضح لهم خامسا بأنه لا نصر عنده ولا إغاثة ولا يستطيع لهم نفعا ولا يدفع عنهم ضرا، بل هو مثلهم في الوقوع في البلية والعجز عن الخلوص عن هذه المحنة، ثم صرح لهم سادسا بأنه قد كفر بما اعتقدوه فيه وأثبتوه له فتضاعفت عليهم الحسرات وتوالت عليهم المصائب وإذا كان جملة (إن الظالمين لم عذاب أليم) من تتمة كلامه كما ذهب إليه البعض فهو نوع سابع من كلامه الذي خاطبهم به، فأثبت لهم الظلم، ثم ذكر ما هو جزاؤهم عليه من العذاب الأليم، لا على قول من قال: إنه ابتداء كلام من جهة الله سبحانه. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن ما مصدرية في " ما أشركتمون " وقيل يجوز أن تكون موصولة على معنى إني كفرت بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل، ويكون هذا حكاية لكفره بالله عند أن أمره بالسجود لآدم (وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار) لما أخبر سبحانه بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة. وقرأ الجمهور