يبلغ التطور التاريخي هذه المرحلة الصناعية. ويقف الإسلام من هذا المنطق - الذي يرد كل وعي وفكرة إلى تطور الإنتاج - هازئا، لأنه استطاع أن يرفع لواء المساواة، وأن يفجر في الانسانية وعيا صحيحا وإدراكا شاملا، واستطاع أيضا أن يعكس جوهرها في واقع العلاقات الاجتماعية، بدرجة لم تصل إليها البورجوازية. استطاع أن يقوم بذلك كله قبل أن يأذن الله بظهور الطبقة البورجوازية، وقبل أن توجد شروطها المادية بعشرة قرون.. فقد نادى بالمساواة يوم لم تكن قد وجدت الآلة فقال: (كلكم لآدم وآدم من تراب) (1). و (الناس سواسية كأسنان المشط) (2). (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) (3).
فهل استوحى المجتمع الإسلامي هذه المساواة من وسائل الإنتاج البورجوازي، التي لم تظهر إلا بعد ذلك بألف سنة؟! أو استوحاها من وسائل الزراعة والتجارة البدائية التي كان المجتمع الحجازي يعيش عليها، وهي وسائل كانت توجد بدرجة أكثر نموا وأعظم تطورا في مجتمعات عربية وعالمية أخرى؟! فلماذا أوحت إلى المجتمع الحجازي بفكرة المساواة، وجندته للقيام بأروع دور تاريخي في سبيل تحقيق هذه الفكرة، ولم تصنع، نظير ذلك مع المجتمعات العربية في اليمن أو الحيرة أو الشام؟!
وتحدى الإسلام أيضا حسابات المادية التاريخية مرة أخرى، فبشر بمجتمع عالمي يجمع الانسانية كلها على صعيد واحد، وعمل جاهدا في سبيل تحقيق هذه الفكرة، في بيئة كانت تضج بالصراع القبلي، وتزخر بآلاف المجتمعات العشائرية المتناقضة، فقفز بتلك الوحدات إلى وحدة إنسانية كبرى، وتسامى بالمسلمين من فكرة المجتمع القبلي الذي تحده حدود الدم والقرابة والجوار، إلى فكرة المجتمع القبلي الذي لا يحده شيء من تلك الحدود، وإنما تحده القاعدة الفكرية للإسلام. فأي أداة إنتاج حولت أولئك الذين كانت تضيق عقولهم عن فكرة المجتمع القومي، فجعلتهم أئمة المجتمع العالمي والدعاة إليه في فترة قصير؟!.