بسبب مقامه ببغداد، وظن أنه إن عاد إلى الأهواز عاوده ما كان فيه من الصحة، ونسي الكبر والشباب. فلما انحدر إلى كلواذى ليتوجه إلى الأهواز أشار عليه أصحابه بالمقام وان يفكر في هذه الحركة ولا يعجل، فأقام بها، ولم يؤثر أحد من أصحابه انتقاله لمفارقة أوطانهم وأسفا على بغداد كيف تخرب بانتقال دار الملك عنها، فأشاروا بالعود إلى بغداد وان يبني بها له دارا في أعلى بغداد لتكون أرق هواء وأصفى ماء ففعل وشرع في بناء داره في موضع المسناة المعزية انتهى.
في مثل ذلك الظرف، ومثل تلك العلاقة كانت حياة المهلبي مع المعز، وأخذت الحساسيات تنمو والأخطاء ترصد لكي تكون مسوغا شكليا للانتقام.
وجاءت مرحلة، أشرف المهلبي فيها بنفسه على بناء الدار المعزية.
ووجدت هفوات لعلها مقصودة فسعى ساعي النفاق إلى معز الدولة، بأنه لم يحكم البناء، وأحضر المهلبي وأوقفه المعز على بعض ما رآه من التسنيف ساف لبن وساف أجر، ولذت ساعة الانتقام، فامر به بالمهلبي فبطح وضرب مقارع كثيرة قال ابن الأثير مائة وخمسين مقرعة.
وجمد بعدها المهلبي من ممارسة أعماله، وبقي قعيد داره.
العودة إلى أعمال الوزارة لا نملك ما يؤيد عودة المهلبي إلى ممارسة أعماله الوزارية بعد نكبته، إلا نصا شعريا نرجح أنه بعث به صاحبه بهذه المناسبة، وإن ذكر ياقوت بان هذا النص بعث به أبو محمد الخلادي حين تسلم الوزير أمور الوزارة، والترجيح مبني على ما في النص من إشارة إلى العودة بعد الغياب، قال القاضي أبو محمد الخلادي:
الآن حين تعاطى القوس باريها * وأبصر السمت في الظلماء ساريها الآن عاد إلى الدنيا مهلبها * سيف الخلافة بل مصباح داجيها أضحى الوزارة تزهى في مواكبها * زهو الرياض إذا جادت غواديها تاهت علينا بميمون نقيبته * قلت لمقداره الدنيا وما فيها موفق الرأي مقرون بغرته * نجم السعادة يرعاها ويحميها معز دولتها هنئتها فلقد * أيدتها بوثيق من رواسيها والأبيات هذه بما تحمل من دفع في بعض ما استخدمت من أساليب، لعله أراد بها إبراز معاني القوة عاد مهلبها أكثر مما أراد بها لونا بلاغيا معروفا، أقول: إن الأبيات هذه لم تثر حماسة المهلبي كثيرا، وكل ما دفعته إليه هو أنه أجاب مهنئه بأبيات أملاها الذوق ودعا إليها العرف، مع رسالة يستشف منها أن الياس ما يزال مخيما عليه، وإنه لم يستطع اجتياز المحنة بشجاعة.
واستمر بعد ذلك وزيرا دون أن نحس لشخصيته القوية باثر يذكر من الناحية السياسية.
أعماله:
كانت الوزارة في القرن الرابع الهجري تعني أمورا مثيرة، فالوزير، هو الذي يدبر أمور السلطة من الناحية الإدارية، وهو الذي ينظم شؤونها من الناحية المالية وهو الذي يقود الجيش في غزواتها والدفاع عن أراضيها. لذلك كان على المهلبي أن يساهم في هذه الأمور كلها.
فهو ما إن تسلم زمام الأمر حتى كان عليه أن يسافر إلى البصرة ليخمد نار ثورتها التي أشعلتها سياسة البريديين الرعناء، بفرض ضرائب قاسية كان القصد منها إضعاف قوى الناس. بان تؤخذ ضريبة العشر من الحنطة والشعير مضروبة في أربعة مسعرة عليهم بسعر يرتضيه العامل. وحين دخل المهلبي البصرة شكا إليه أهلها ذلك التعسف فوعدهم بكل ما أنسوا به وطلب إليهم العودة إلى رسمهم القديم في أخذ العشر حبا بعينه من غير تربيع ولا تسعير وسويت المشكلة بينهم وبين معز الدولة.
وأثمر عدله هذا في نفوس البصريين فحضروا إلى بغداد شاكرين هذه المكرمة للمهلبي أمام المعزم، وأشهدوا أمام الخليفة العباسي على التزامهم له وتنقل بين البصرة والأهواز ليقف على تصرف العمال بنفسه وليرد كل مظلمة.
وقد بلغه وهو في الأهواز خبر عامل عمان يوسف بن وجيه، ممن آثر الخروج على حكم معز الدولة، وقد أغرى هذا العامل ما سمعه من نفوذ القرامطة في البصرة واستيحاشهم من معز الدولة، وما درى أن الأمر في البصرة قد سوي بحزم وزير ذكي.
وسار المهلبي في جيش قوي إلى البصرة ودخلها قبل وصول يوسف إليها، وشحنها بالرجال، وحين وصل يوسف إلى البصرة دخل هو والمهلبي في معركة دامت أياما، كان النصر في النهاية حليف الوزير، وعاد بكل ممتلكات ابن وجيه من سلاح ومتاع.
واستمرت حياته حربا لعمر بن شاهين مرة والتهيئة لفتح عمان أخرى، ولكنه لم يوفق في الموقفين.
أما الأول، فلاضطراره من قبل معز الدولة على التهور وترك سياسته الحازمة، وخطته الناجحة في الحرب الطويلة مما أدى إلى انهزام جيشه، واعتقال قواده.
وأما الثاني، فلأنه، قد اعتل قبل وصوله هدفه، فأعيد إلى بغداد في السنة التي توفي فيها.
صلته بأدباء عصره:
قال الثعالبي: كان المهلبي من ارتفاع القدر واتساع الصدر ونبل الهمة وفيض الكف وكرم الشيمة على ما هو مذكور مشهور.
وتلك خلال كريمة قد يكون فيها بعض الأسباب التي جمعت حوله كرام الرجال وأفاضل العلماء، فنجد ديوانه بيته معمورا بأمثال الصاحب بن عباد، والقاضي الخلادي والخالديين والتنوخيين، وأبي إسحاق الصابي، وابن سكرة الهاشمي، وابن حجاج، وأبي علي الحاتمي وابن المنجم، وأبي الفرج