في مآرب بدنه حتى لا يحمله السرف على ما يضر جسمه أو يهتك مروءته، ويحارب دواعي نفسه الذميمة حتى لا تقهره شهوة قبيحة ولا غضب في غير موضعه، ويستبصر في اعتقاداته حتى لا يفوته بقدر طاقته شئ من العلوم والمعارف الصالحة، ليصلح أولا نفسه ويهذبها ويحصل له من هذه المجاهدة ثمرتها التي هي العدالة (1)... الخ... أقول تجلت هذه النزعة في ذلك العهد الطريف، وتجلت كذلك في كتابه التاريخي المعروف تجارب الأمم وعواقب الهمم وهو الكتاب الذي فضح فيه بجرأة وصراحة الكثير من رذائل السلاطين، الذين خدم أولادهم وأحفادهم (2) كما تجلت على الخصوص في كتابه العظيم الذي نحدثك عنه الآن:
4 - كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ويعتبر هذا الكتاب أهم كتبه الأخلاقية وأطرفها وأكملها (3)، ونظرا لأن ابن مسكويه كان أديبا شاعرا يحذق العربية والفارسية على السواء، فإن أسلوبه فيه يمتاز بالسلاسة والرقة والعذوبة على غير عادة الفلاسفة الإسلاميين. وقد أعجب " الطوسي " به كل الاعجاب فترجمه إلى الفارسية وقال عنه:
بنفسي كتاب حاز كل فضيلة * وصار لتكميل البرية ضامنا مؤلفة قد أبرز الحق خالصا * بتأليفه من بعد ما كان كامنا ووسمه باسم الطهارة قاضيا * به حق معناه ولم يك ماثنا لقد بذل المجهود لله دره * فما كان في نصح الخلائق خائنا والكتاب بعد هذا ست مقالات، تدور كما قلنا حول الأخلاق الإيجابية للانسان، أي الأخلاق التي تليق به من حيث هو حيوان ناطق. ولذلك نراه يفرق في المقالة الأولى بين النفس والجسد تفريقا يثبت به روحانية الأولى وخلودها، واحتياج قواها المختلفة إلى كمال خاص يتفق وما فيها من عقل مسيطر وفكر مقدس. ونراه يتناول في الثانية خلق الإنسان وقابليته للتغير والتهذيب ومدى أثر المعرفة في العمل الخلقي، ويتأدى من ذلك إلى " المنزلة الرفيعة " الجديرة بالإنسان وماذا عسى أن يعوقنا عنها. أما المقالة الثالثة فلا تتناول غير موضوع السعادة بالبسط والمناقشة والعرض. وأما المقالة الرابعة فتحدد الأعمال الخلقية وتميزها عن غيرها، وتنتهي بنا إلى المقالة الخامسة التي يبسط فيها أنواع المحبة بوجه عام، ومحبة الصديق على الخصوص، وأخيرا تأتي المقالة السادسة لتبين لنا طريق حفظ الصحة على النفس ومعالجتها إذا مرضت.
ويطول بنا المقام إذا أردنا أن نبين وجه الطرافة والجمال والإنساق في هذه المقالات البعيدة في منهجها عن منهج الدينيين - (كالبصري في كتاب أدب الدنيا والدين) (4) -، والمعتمدة في طريقتها على الاستقراء العلمي الدقيق الذي " يكاد " بنطق بالتطور، والذي يرسل البصر في الكون كله ويحدد للإنسان ماهيته وعمله فيه!.
أما مصادره في ذلك الكتاب فهي تلك الثقافة الخلقية الواسعة التي استمدها من الأمم الأربع، والتي يلوح فيها القرآن متفقا مع أرسطو وأفلاطون وجالينوس وغيرهم من حكماء اليونان على الخصوص.
وإذا حاولنا أن نعقد مقارنة بين هذا الكتاب وبين كتاب أرسطو إلى نيكوماخوس " وجدنا ابن مسكويه يبز المعلم الأول أحيانا في الوضوح والانسجام، ويتفوق عليه في فصول خاصة كفصل الصداقة والصديق، ويزيد على فصوله فصولا أخرى جوهرية كفصلي دفع الأحزان وحفظ الصحة على النفس السليمة!!.
لذلك ننصح القارئ العزيز بقراءة هذا الكتاب مرة ومرة ومرة، ويجعله دستورا له في حياته كانسان يرنو إلى السعادة الحق دنيا وآخرة ونختم هذا التعريف الموجز بقول ابن مسكويه لابن العميد:
لا يعجبنك حسن القصر تنزله * فضيلة الشمس ليست في منازلها لو زيدت الشمس في أبراجها مائة * ما زاد ذلك شيئا في فضائلها أو بقوله لعميد الملك:
فانظر إلى سير القوم الذين مضوا * والحظ كتابتهم من باطن الكتب تجد تفاوتهم في الفضل مختلفا * وإن تقاربت الأحوال في النسب هذا كتاج على رأس يعظمه * وذاك كالشعر الجافي على الذنب!!
مسكويه وتصنيفه تجارب الأمم وقال الدكتور أبو القاسم إمامي (5):
لم يرد في المصادر القديمة التي وصلت إلينا، ذكر بالتفصيل عن حياة مسكويه يجيب على الكثير من الأسئلة المطروحة أمام دارسيه. وكل ما لدينا هو قطع مبعثرة في هذا المصدر أو ذاك، كتبها أصحاب التراجم ومؤرخو الحكمة، وهي نزر قليل للغاية. ومن حسن الحظ أن نرى كاتبا حكيما من كبار الحكماء المعاصرين لمسكويه، من يعرف مسكويه عن كثب ويقدر القيم التي تنطوي عليها شخصيته، نراه ولم يقنعه ما كتبه عن مسكويه في كتابه بقدر ما كتبه حول الحكماء الآخرين، بالاختصار والتلخيص، بل يعدنا فيه أنه سيخصص رسالة بمسكويه، يعالج فيها مزيدا من تفاصيل حياته، وهذا الحكيم هو أبو سليمان المنطقي الذي يعد بدوره من أعظم الحكماء في تلك الحقبة. ثم نرى وهذا من سوء الحظ أن ما وعده أبو سليمان لم يصل إلينا أيضا، سواء لم يوفق في إنجاز ما وعد، أو لأنه أنجزه، ولكن صروف الدهر هي التي حرمتنا هذه الوثيقة التي كان من شانها أن تغنينا مما هو مبعثر هنا وهناك، وليس إلا تردادا لقليل من الكثير اللازم في التعرف على حياة مسكويه. أما ما وعد به أبو سليمان، فهو ما قاله في كتابه صوان الحكمة:... أما ما سمعته من مجاري حياته، وشاهدته من سيره الحسنة، وأخلاقه الطاهرة، فسأفرد فيه رسالة أقصرها على ذلك، إذ ليس يحتمل هذا الموضع أكثر مما ذكرته.