مستأنفة مبنية على سؤال مقدر كغيرها، وجملة (فصبر جميل) خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف: أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أجمل بي وأولى لي والصبر الجميل هو الذي لا يبوح صاحبه بالشكوى بل يفوض أمره إلى الله ويسترجع، وقد ورد أن الصبر عند أول الصدمة (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) أي بيوسف وأخيه بنيامين، والأخ الثالث الباقي بمصر، وهو كبيرهم كما تقدم، وإنما قال هكذا لأنه قد كان عنده أن يوسف لم يمت، وأنه باق على الحياة وإن غاب عنه خبره (إنه هو العليم) بحالي (الحكيم) فيما يقضي به (وتولى عنهم) أي أعرض عنهم، وقطع الكلام معهم (وقال يا أسفا على يوسف). قال الزجاج: الأصل يا أسفي. فأبدل من الياء ألفا لخفة الفتحة، والأسف: شدة الجزع، وقيل شدة الحزن، ومنه قول كثير:
فيا أسفا للقلب كيف انصرافه * وللنفس لما سليت فتسلت قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف، وانضمام فراقه لأخيه بنيامين، وبلوغ ما بلغه من كونه أسيرا عند ملك مصر، فتضاعفت أحزانه، وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير. وقد روى عن سعيد بن جبير أن يعقوب لم يكن عنده ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع والصبر على المصائب، ولو كان عنده ذلك لما قال: يا أسفا على يوسف. ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره، كأنه قال:
تعال يا أسفي وأقبل إلى (وابيضت عيناه من الحزن) أي انقلب سواد عينيه بياضا من كثرة البكاء. قيل إنه زال إدراكه بحاسة البصر بالمرة، وقيل كان يدرك إدراكا ضعيفا. وقد قيل في توجيه ما وقع من يعقوب عليه السلام من هذا الحزن العظيم المفضي إلى ذهاب بصره كلا أو بعضا بأنه إنما وقع منه ذلك لأنه علم أن يوسف حي، فخاف على دينه مع كونه بأرض مصر وأهلها حينئذ كفار، وقيل إن مجرد الحزن ليس بمحرم، وإنما المحرم ما يفضى منه إلى الوله وشق الثياب والتكلم بما لا ينبغي، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند موت ولده إبراهيم " تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون ". ويؤيد هذا قوله (فهو كظيم) أي مكظوم، فإن معناه: أنه مملوء من الحزن ممسك له لا يبثه، ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه، فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه، من كظم السقاء: إذا سده على ما فيه، والكظم بفتح الظاء: مخرج النفس، يقال أخذ بأكظامه وقيل الكظيم بمعنى الكاظم: أي المشتمل على حزنه الممسك له، ومنه:
فإن أك كاظما لمصاب ناس * فإني اليوم منطلق لساني ومنه - والكاظمين الغيظ -. وقال الزجاج: معنى كظيم: محزون. وروى عن ابن عباس أنه قال: معناه مغموم مكروب. قال بعض أهل اللغة: الحزن بالضم والسكون: البكاء، وبفتحتين: ضد الفرح. وقال أكثر أهل اللغة: هما لغتان بمعنى (قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف) أي لا تفتؤ، فحذف حرف النفي لعدم اللبس. قال الكسائي: فتأت وفتئت أفعل كذا: أي ما زلت. وقال الفراء: إن لا مضمرة: أي لا تفتأ. قال النحاس: والذي قال صحيح. وقد روى عن الخليل وسيبويه مثل قول الفراء، وأنشد الفراء محتجا على ما قاله:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا * ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ويقال فتئ وفتأ لغتان، ومنه قول الشاعر:
فما فتئت حتى كأن غبارها * سرادق يوم ذي رياح ترفع (حتى تكون حرضا) الحرض مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والصفة المشبهة، حرض