سورة الإسراء الآية (98 - 100) حكى سبحانه عنهم شبهة أخرى قد تكرر في الكتاب العزيز التعرض لإيرادها وردها في غير موضع فقال (وما منع الناس أن يؤمنوا) المراد الناس على العموم، وقيل المراد أهل مكة على الخصوص: أي ما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو المفعول الثاني لمنع، ومعنى (إذ جاءهم الهدى) أنه جاءهم الوحي من الله سبحانه على رسوله، وبين ذلك لهم وأرشدهم إليه، وهو ظرف لمنع أو يؤمنوا: أي ما منعهم وقت مجئ الهدى أن يؤمنوا بالقرآن والنبوة (إلا أن قالوا) أي ما منعهم إلا قولهم، فهو في محل رفع على أنه فاعل منع، والهمزة في (أبعث الله بشرا رسولا) للإنكار منهم أن يكون الرسول بشرا، والمعنى: أن هذا الاعتقاد الشامل لهم، وهو إنكار أن يكون الرسول من جنس البشر، هو الذي منعهم عن الإيمان بالكتاب وبالرسول، وعبر عنه بالقول للإشعار بأنه ليس إلا مجرد قول قالوه بأفواههم، ثم أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب عن شبهتهم هذه فقال (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين) أي لو وجد وثبت أن في الأرض بدل من فيها من البشر ملائكة يمشون على الأقدام كما يمشي الإنس مطمئنين مستقرين فيها ساكنين بها. قال الزجاج:
مطمئنين مستوطنين في الأرض، ومعنى الطمأنينة السكون، فالمراد ها هنا المقام والاستيطان، فإنه يقال سكن البلد فلان إذا أقام فيها وإن كان ماشيا متقلبا في حاجاته (لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) حتى يكون من جنسهم وفيه إعلام من الله سبحانه بأن الرسل ينبغي أن تكون من جنس المرسل إليهم، فكأنه سبحانه اعتبر في تنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين: الأول كون سكان الأرض ملائكة. والثاني كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا إليها، وسمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه فلا يكون في بعثة الملائكة إليهم فائدة. وانتصاب بشرا وملكا على أنهما مفعولان للفعلين، ورسولا في الموضعين وصف لهما. وجوز صاحب الكشاف أن يكونا حالين في الموضعين من رسولا فيهما وقواه صاحب الكشاف، ولعل وجه ذلك أن الإنكار يتوجه إلى الرسول المتصف بالبشرية في الموضع الأول، فيلزم بحكم التقابل أن يكون الآخر كذلك، ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد، فقال (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم) أي قل لهم يا محمد من جهتك كفى بالله وحده شهيدا على إبلاغي إليكم ما أمرني به من أمور الرسالة، وقال بيني وبينكم ولم يقل بيننا تحقيقا للمفارقة الكلية، وقيل إن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبي شهادة من الله له على الصدق، ثم علل كونه سبحانه شهيدا كافيا بقوله (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) أي عالما بجميع أحوالهم محيطا بظواهرها وبواطنها بصيرا بما كان منها وما يكون، ثم بين سبحانه أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته فقال (ومن يهد الله فهو المهتدى) أي من يرد الله هدايته فهو المهتدى إلى الحق أو إلى كل مطلوب (ومن يضلل) أي يرد إضلاله (فلن تجد لهم أولياء) ينصرونهم (من دونه) يعنى الله سبحانه ويهدونهم إلى الحق الذي أضلهم الله عنه أو إلى طريق النجاة، وقوله (فهو المهتدى) حملا على لفظ من، وقوله (فلن تجد لهم) حملا على المعنى، والخطاب في قوله: فلن تجد إما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو لكل من يصلح له (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم) هذا الحشر على الوجوه