يكون المعنى: وبالحق قدرنا أن ينزل وكذلك نزل، أو ما أنزلناه من السماء إلا محفوظا، وما نزل على الرسول إلا محفوظا من تخليط الشياطين، والتقديم في الموضعين للتخصص (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) أي مبشرا لمن أطاع بالجنة ونذيرا مخوفا لمن عصى بالنار (وقرآنا فرقناه) انتصاب قرآنا بفعل مضمر يفسره ما بعده، قرأ علي وابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبي (فرقناه) بالتشديد: أي أنزلناه شيئا بعد شئ لا جملة واحدة. وقرأ الجمهور فرقناه بالتخفيف: أي بيناه وأوضحناه، وفرقنا فيه بين الحق والباطل. وقال الزجاج: فرقه في التنزيل ليفهمه الناس. قال أبو عبيد: التخفيف أعجب إلي، لأن تفسيره بيناه، وليس للتشديد معنى إلا أنه نزل متفرقا. ويؤيده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: فرقت مخففا بين الكلام، وفرقت مشددا بين الأجسام، ثم ذكر سبحانه العلة لقوله: فرقناه، فقال (لتقرأه على الناس على مكث) أي على تطاول في المدة شيئا بعد شئ على القراءة الأولى، أو أنزلناه آية آية، وسورة سورة. ومعناه على القراءة الثانية على مكث: أي على ترسل وتمهل في التلاوة، فإن ذلك أقرب إلى الفهم وأسهل للحفظ. وقد اتفق القراء على ضم الميم في مكث إلا ابن محيصن فإنه قرأ بفتح الميم (ونزلناه تنزيلا) التأكيد بالمصدر للمبالغة، والمعنى: أنزلناه منجما مفرقا لما في ذلك من المصلحة، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا ولم يطيقوا (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للكافرين المقترحين للآيات آمنوا به أو لا تؤمنوا، فسواء إيمانكم به وامتناعكم عنه لا يزيده ذلك ولا ينقصه. وفى هذا وعيد شديد لأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عنهم واحتقارهم، ثم علل ذلك بقوله (إن الذين أوتوا العلم من قبله) أي أن العلماء الذين قرؤا الكتب السابقة قبل إنزال القرآن وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام (إذا يتلى عليهم) أي القرآن (يخرون للأذقان سجدا) أي يسقطون على وجوههم ساجدين لله سبحانه. وإنما قيد الخرور، وهو السقوط بكونه للأذقان: أي عليها، لأن الذقن، وهو مجتمع اللحيين أول ما يحاذي الأرض. قال الزجاج: لأن الذقن مجتمع اللحيين، وكما يبتدئ الإنسان بالخرور للسجود، فأول ما يحاذي الأرض به من وجهه الذقن، وقيل المراد تعفير اللحية في التراب، فإن ذلك غاية الخضوع، وإيثار اللام في للأذقان على على للدلالة على الاختصاص، فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور، أو خصوا الخرور بأذقانهم، وقيل الضمير في قوله (من قبله) راجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأولى ما ذكرناه من رجوعه إلى القرآن لدلالة السياق على ذلك، وفى هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وحاصلها أنه إن لم يؤمن به هؤلاء الجهال الذين لا علم عندهم ولا معرفة بكتب الله ولا بأنبيائه، فلا تبال بذلك. فقد آمن به أهل العلم وخشعوا له وخضعوا عند تلاوته عليهم خضوعا ظهر أثره البالغ بكونهم يخرون على أذقانهم سجدا لله (ويقولون سبحان ربنا) أي يقولون في سجودهم تنزيها لربنا عما يقوله الجاهلون من التكذيب أو تنزيها له عن خلف وعده (إن كان وعد ربنا لمفعولا) إن هذه هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة. ثم ذكر أنهم خروا لأذقانهم باكين فقال (ويخرون للأذقان يبكون) وكرر ذكر الخرور للأذقان لاختلاف السيب، فإن الأول لتعظيم الله سبحانه وتنزيهه، والثاني للبكاء بتأثير مواعظ القرآن في قلوبهم ومزيد خشوعهم، ولهذا قال (ويزيدهم) أي سماع القرآن، أو القرآن بسماعهم له (خشوعا) أي لين قلب ورطوبة عين.
وقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (تسع آيات) فذكر ما ذكرناه عن أكثر المفسرين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: يده، وعصاه