ظاهرة غير خفية، فكان في التعبير في كل موضع بواحد منها افتنان حسن لا يوجد في التعبير بواحد منها في جميع المواضع الثلاثة (وهو الذي سخر البحر) أمتن الله سبحانه بتسخير البحر بامكان الركوب عليه واستخراج ما فيه من صيد وجواهر، لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده مع ما فيه من الدلالة على وحدانية الرب سبحانه وكمال قدرته، وقد جمع الله سبحانه لعباده في هذا المقام بين التذكير لهم بآياته الأرضية والسماوية والبحرية، فأرشدهم إلى النظر والاستدلال بالآيات المتنوعة المختلفة الأمكنة إتماما للحجة، وتكميلا للإنذار، وتوضيحا لمنازع الاستدلال، ومناطات البرهان، ومواضع النظر والاعتبار، ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال (لتأكلوا منه لحما طريا) المراد به السمك، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته، والإرشاد إلى المسارعة بأكله لكونه مما يفسد بسرعة (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) أي لؤلؤا ومرجانا كما في قوله سبحانه - يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان - وظاهر قوله " تلبسونها " أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان: أي يجعلونه حلية لهم كما يجوز للنساء، ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله " تلبسونها " بقوله تلبسه نساؤهم، لأنهن من جملتهم، أو لكونهن يلبسنها لأجلهم، وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضى منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة، فإن ذلك ممنوع من جهة كونه تشبها بهن، وقد ورد الشرع بمنعه لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان (وترى الفلك مواخر فيه) أي ترى السفن شواق للماء تدفعه بصدرها.
ومخر السفينة: شقها الماء بصدرها. قال الجوهري: مخر السابح: إذا شق الماء بصدره، ومخر الأرض: شقها للزراعة، وقيل مواخر: جواري، وقيل معترضة، وقيل تذهب وتجئ، وقيل ملججة. قال ابن جرير: المخر في اللغة: صوت هبوب الريح، ولم يقيد بكونه في ماء (ولتبتغوا من فضله) معطوف على تستخرجوا، وما بينهما اعتراض، أو على علة محذوفة تقديره لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، أو على تقدير فعل ذلك لتبتغوا: أي لتتجروا فيه فيحصل لكم الربح من فضل الله سبحانه (ولعلكم تشكرون) أي إذا وجدتم فضله عليكم وإحسانه إليكم اعترفتم بنعمته عليكم فشكرتم بعد ذلك باللسان والأركان. قيل ولعل وجه تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر من حيث أن فيها قطعا لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلة من غير مزاولة أسباب السفر، بل من غير حركة أصلا مع أنها في تضاعيف المهالك، ويمكن أن يضم إلى ما ذكر من قطع المسافة على الصفة المذكورة ما اشتمل عليه البحر من كون فيه أطيب مأكول وأنفس ملبوس وكثرة النعم مع نفاستها وحسن موقعها من أعظم الأسباب المستدعية للشكر الموجبة له، ثم أردف هذه النعم الموجبة للتوحيد المفيدة للاستدلال على المطلوب بنعمة أخرى وآية كبرى فقال (وألقى في الأرض رواسي) أي جبالا ثابتة، يقال رسا يرسو: إذا ثبت وأقام، قال الشاعر:
فصبرت عارفة لذلك حرة * ترسو إذا نفس الجبان تطلع (أن تميد بكم) أي كراهة أن تميد بكم على ما قاله البصريون، أو لئلا تميد بكم على ما قاله الكوفيون. والميد:
الاضطراب يمينا وشمالا، ماد الشئ يميد ميدا تحرك، ومادت الأغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر (وأنهارا) أي وجعل فيها أنهارا، لأن الإلقاء ها هنا بمعنى الجعل والخلق كقوله - وألقيت عليك محبة منى - (وسبلا) أي وجعل فيها سبلا وأظهرها وبيتها لأجل تهتدون بها في أسفاركم إلى مقاصدكم. والسبل: الطرق (وعلامات) أي وجعل فيها علامات وهى معالم الطرق. والمعنى: أنه سبحانه جعل للطرق علامات يهتدون بها (وبالنجم هم يهتدون) المراد بالنجم الجنس: أي يهتدون به في سفرهم ليلا. وقرأ ابن وثاب وبالنجم بضم النون والجيم، ومراده النجوم فقصره، أو هو جمع نجم كسقف وسقف، وقيل المراد بالنجم هنا الجدي والفرقدان قاله الفراء، وقيل الثريا، وقيل العلامات