فتح القدير - الشوكاني - ج ٣ - الصفحة ١٤٩
الركوب معلوم كالتحميل عليها (و) عطف (زينة) على محل " لتركبوها " لأنه في محل نصب على أنه علة لخلقها ولم يقل لتتزينوا بها حتى يطابق لتركبوها، لأن الركوب فعل المخاطبين، والزينة فعل الزائن وهو الخالق، والتحقيق فيه أن الركوب هو المعتبر في المقصود، بخلاف الزينة فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية لأنه يورث العجب، فكأنه سبحانه قال: خلقتها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات، وقد استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها، قالوا: ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل. قالوا: ولو كان أكل الخيل جائز لكان ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب، لأنه أعظم فائدة منه، وقد ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم. وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدثين وغيرهم إلى حل لحوم الخيل، ولا حجة لأهل القول والأول في التعليل بقوله " لتركبوها " لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره، ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب، وأيضا لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل لدلت على تحريم الحمر الأهلية، وحينئذ لا يكون ثم حاجة لتحديد التحريم لها عام خيبر، وقد قدمنا أن هذه السورة مكية. والحاصل أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل، فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكا للقائلين بالتحريم لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال، ودافعة لهذا الاستدلال، وقد أوضحنا هذه المسئلة في مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره (ويخلق ما لا تعلمون) أي يخلق مالا يحيط علمكم به من المخلوقات غير ما قد عدده ها هنا، وقيل المراد من أنواع الحشرات والهوام في أسافل الأرض، وفى البحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به، وقيل هو ما أعد الله لعباده في الجنة وفى النار مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولا خطر على قلب بشر، وقيل هو خلق السوس في النبات والدود في الفواكه، وقيل عين تحت العرش، وقيل نهر من النور، وقيل أرض بيضاء، ولا وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من هذه الأنواع، بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد، فيشمل كل شئ لا يحيط علمهم به، والتعبير هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة، لأنه سبحانه قد خلق ما لا يعلم به العباد (وعلى الله قاصد السبيل) القصد مصدر بمعنى الفاعل، فالمعنى وعلى الله قاصد السبيل: أي هداية قاصد الطريق المستقيم بموجب وعده المحتوم وتفضله الواسع، وقيل هو على حذف مضاف، والتقدير: وعلى الله بيان قصد السبيل، والسبيل: الإسلام، وبيانه بإرسال الرسل وإقامة الحجج والبراهين، والقصد في السبيل هو كونه موصلا إلى المطلوب، فالمعنى: وعلى الله بيان الطريق الموصل إلى المطلوب (ومنها جائر) الضمير في " منها " راجع إلى السبيل بمعنى الطريق، لأنها تذكر وتؤنث، وقيل راجع إليها بتقدير مضاف: أي ومن جنس السبيل جائر مائل عن الحق عادل عنه، فلا يهتدى به، ومنه قول امرئ القيس:
ومن الطريقة جائر وهدى * قصد السبيل ومنه ذو دخل وقيل إن الطريق كناية عن صاحبها، والمعنى: ومنهم جائر عن سبيل الحق: أي عادل عنه، فلا يهتدى إليه قيل وهم أهل الأهواء المختلفة، وقيل أهل الملل الكفرية، وفى مصحف عبد الله " ومنكم جائر " وكذا قرأ على (ولو شاء لهداكم أجمعين) أي ولو شاء أن يهديكم جميعا إلى الطريق الصحيح، والمنهج الحق لفعل ذلك، ولكنه لم
(١٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 144 145 146 147 148 149 150 151 152 153 154 ... » »»
الفهرست