في الأرض علامات برعيها (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب) قرأ أبو بكر عن عاصم " ننبت " بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية: أي ينبت الله لكم بذلك الماء الذي أنزله من السماء، وقدم الزرع لأنه أصل الأغذية التي يعيش بها الناس. وأتبعه بالزيتون لكونه فاكهة من وجه وإداما من وجه لكثرة ما فيه من الدهن، وهو جمع زيتونة، ويقال للشجرة نفسها زيتونة، ثم ذكر النخيل لكونه غذاء وفاكهة وهو مع العنب أشرف الفواكه، وجمع الأعناب لاشتمالها على الأصناف المختلفة، ثم أشار إلى سائر الثمرات فقال (ومن كل الثمرات) كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها فيما سبق بقوله - ويخلق مالا تعلمون -، وقرأ أبى ابن كعب " ينبت لكم به الزرع " يرفع الزرع وما بعده (إن في ذلك) أي الإنزال والإنبات (لآية) عظيمة دالة على كمال القدرة والتفرد بالربوبية (لقوم يتفكرون) في مخلوقات الله ولا يهملون النظر في مصنوعاته (وسخر لكم الليل والنهار) معنى تسخيرهما للناس تصييرهما نافعين لهم بحسب ما تقتضيه مصالحهم وتستدعيه حاجاتهم، يتعاقبان دائما كالعبد الطائع لسيده لا يخالف ما يأمره به ولا يخرج عن إرادته ولا يهمل السعي في نفعه، وكذا الكلام في تسخير الشمس والقمر والنجوم، فإنها تجرى على نمط متحد يستدل بها العباد على مقادير الأوقات، ويهتدون بها ويعرفون أجزاء الزمان، ومعنى مسخرات مذللات. وقرأ ابن عامر وأهل الشام (والشمس والقمر والنجوم مسخرات) بالرفع على الابتداء والخبر.
وقرأ الباقون بالنصب عطفا على الليل والنهار. وقرأ حفص عن عاصم برفع النجوم على أنه مبتدأ وخبره مسخرات (بأمره) وعلى قراءة النصب في مسخرات يكون حالا مؤكدة. لأن التسخير قد فهم من قوله " وسخر "، وقرأ حفص في رواية برفع مسخرات مع نصب ما قبله على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هي مسخرات (إن في ذلك) التسخير (لآيات لقوم يعقلون) أي يعملون عقولهم في هذه الآثار الدالة على وجود الصانع وتفرده وعدم وجود شريك له، وذكر الآيات لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة، وجمعها ليطابق قوله مسخرات، وقيل: إن وجه الجمع هو أن كلا من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم آية في نفسها بخلاف ما تقدم من الإنبات فإنه آية واحدة، ولا يخلو كل هذا عن تكلف، والأولى أن يقال: إن هذه المواضع الثلاثة التي أفرد الآية في بعضها وجمعها في بعضها كل واحد منها يصلح للجمع باعتبار وللإفراد باعتبار، فلم يجرها على طريقة واحدة افتنانا وتنبيها على جواز الأمرين وحسن كل واحد منهما (وما ذرأ لكم في الأرض) أي خلق: يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا: خلقهم. فهو ذارئ، ومنه الذرية، وهى نسل الثقلين، وقد تقدم تحقيق هذا، وهو معطوف على النجوم رفعا ونصبا: أي وسخر لكم ما ذرأ في الأرض.
فالمعنى: أنه سبحانه سخر لهم تلك المخلوقات السماوية والمخلوقات الأرضية، وانتصاب مختلفا ألوانه على الحال، وألوانه: هيئاته ومناظره، فإن ذرء هذه الأشياء على اختلاف الألوان والأشكال مع تساوى الكل في الطبيعة الجسمية آية عظيمة دالة على وجود الصانع سبحانه وتفرده (إن في ذلك) التسخير لهذه الأمور (لآية) واضحة (لقوم يذكرون) فإن من تذكر اعتبر، ومن اعتبر استدل على المطلوب، قيل وإنما خص المقام الأول بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة، وخص المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة وإراحة العلة، فمن لم يعترف بعدها بالوحدانية فلا عقل له، وخص المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة، فمن شك بعد ذلك فلا حس له، وفى هذا من التكلف ما لا يخفى. والأولى أن يقال هنا كما قلنا فيما تقدم في إفراد الآية في البعض وجمعها في البعض الآخر، وبيانه أن كلا من هذه المواضع الثلاثة يصلح لذكر التفكر ولذكر التعقل ولذكر التذكر لاعتبارات