مراحل من مصر، هرب إليها موسى فأقام بها عشر سنين، وهى أتم الأجلين، وقيل أقام عند شعيب ثمان وعشرين سنة منها عشر مهر امرأته ابنة شعيب، ومنها ثماني عشرة سنة بقي فيها عنده حتى ولد له، والفاء في " فلبثت " تدل على أن المراد بالمحن المذكورة هي ما كان قبل لبثه في أهل مدين (ثم جئت على قدر يا موسى) أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبيا، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به. قال الشاعر:
نال الخلافة إذ كانت له قدرا * كما أتى ربه موسى على قدر وكلمة ثم المفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليه السلام كان بعد مدة، وذلك بسبب ما وقع له من ضلال الطريق وتفرق غنمه ونحو ذلك (واصطنعتك لنفسي) الاصطناع: اتخاذ الصنعة، وهى الخير تسديه إلى إنسان، والمعنى: اصطنعتك لوحيي ورسالتي لتتصرف قبل على إرادتي. قال الزجاج: تأويله اخترتك لإقامة حجتي، وجعلتك بيني وبين خفي، وصرت بالتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم. قيل وهو تمثيل لما خوله الله سبحانه من الكرامة العظمى بتقريب الملك لبعض خواصه (اذهب أنت وأخوك) أي وليذهب أخوك، وهو كلام مستأنف مسوق لبيان ما هو المقصود من الاصطناع ومعنى (بآياتي) بمعجزاتي التي جعلتها لك آية، وهى التسع الآيات (ولا تنيا في ذكرى) أي لا تضعفا ولا تفترا، يقال ونى يني ونيا: إذا ضعف.
قال الشاعر:
فما ونى محمد مذ أن غفر * له الإله ما مضى وما غبر وقال امرؤ القيس:
يسيح إذا ما السابحات على الونى * أثرن غبارا بالكديد الموكل قال الفراء: في ذكري وعن ذكري سواء، والمعنى: لا تقصرا عن ذكري بالإحسان إليكما، والإنعام عليكما وذكر النعمة شكرها. وقيل معنى " لا تنيا " لا تبطئا في تبليغ الرسالة، وفى قراءة ابن مسعود " لا تهنا في ذكرى " (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) هذا أمر لهما جميعا بالذهاب، وموسى حاضر وهارون غائب تغليبا لموسى، لأنه الأصل في أداء الرسالة، وعلل الأمر بالذهاب بقوله (إنه طغى) أي جاوز الحد في الكفر والتمرد. وخص موسى وحده بالأمر بالذهاب فيما تقدم، وجمعهما هنا تشريفا لموسى بإفراده، وتأكيدا للأمر بالذهاب بالتكرير. وقيل إن في هذا دليلا على أنه لا يكفي ذهاب أحدهما. وقيل الأول أمر لموسى بالذهاب إلى كل الناس، والثاني أمر لهما بالذهاب إلى فرعون. ثم أمرهما سبحانه بإلانة القول له لما في ذلك من التأثير في الإجابة، فإن التخشين بادئ بدء يكون من أعظم أسباب النفور والتصلب في الكفر، والقول اللين هو الذي لا خشونة فيه، يقال: لان الشئ يلين لينا، والمراد تركهما للتعنيف كقولهما - هل لك إلى أن تزكى - وقيل القول اللين هو الكنية له، وقيل أن يعداه بنعيم الدنيا إن أجاب، ثم علل الأمر بإلانة القول له بقوله (لعله يتذكر أو يخشى) أي باشرا ذلك مباشرة من يرجو ويطمع، فالرجاء راجع إليهما كما قاله جماعة من النحويين: سيبويه وغيره. وقد تقدم تحقيقه في غير موضع قال الزجاج: " لعل " لفظة طمع وترج، فخاطبهم بما يعقلون. وقيل لعل هاهنا بمعنى الاستفهام. والمعنى: فانظرا هل يتذكر أو يخشى، وقيل بمعنى كي. والتذكر: النظر فيما بلغاه من الذكر وإمعان الفكر فيه حتى يكون ذلك سببا في الإجابة، والخشية هي خشية عقاب الله الموعود به على لسانهما، وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع.