البحر ألقاه بالساحل فنظره فرعون فأمر من يأخذه، وقيل وجدته ابنة فرعون، والأول أولى (وألقيت عليك محبة منى) أي ألقى الله على موسى محبة كائنة منه تعالى في قلوب عباده لا يراه أحد إلا أحبه، وقيل جعل عليه مسحة من جمال لا يراه أحد من الناس إلا أحبه. وقال ابن جرير: المعنى وألقيت عليك رحمتي: وقيل كلمة " من " متعلقة بألقيت، فيكون المعنى: ألقيت مني عليك محبة: أي أحببتك، ومن أحبه الله أحبه الناس (ولتصنع على عيني) أي ولتربى وتغذى بمرأى مني، يقال صنع الرجل جاريته: إذا رباها، وصنع فرسه: إذا داوم على علفه والقيام عليه، وتفسير " على عيني " بمرأى مني صحيح. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة، ولكن لا يكون في هذا تخصيص لموسى، فإن جميع الأشياء بمرآى من الله. وقال أبو عبيدة وابن الأنباري: إن المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي، تقول: أتخذ الأشياء على عيني: أي على محبتي. قال ابن الأنباري: العين في هذه الآية يقصد بها قصد الإرادة والاختيار، من قول العرب: غدا فلان على عيني: أي على المحبة مني. قيل واللام متعلقة بمحذوف:
أي فعلت ذلك لتصنع، وقيل متعلقة بألقيت، وقيل متعلقة بما بعده: أي ولتصنع على عيني قدرنا مشي أختك.
وقرأ ابن القعقاع " ولتصنع " بإسكان اللام على الأمر، وقرأ أبو نهيك بفتح التاء. والمعنى: ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئتي، وعلى عين مني (إذ تمشى أختك) ظرف لألقيت، أو لتصنع، ويجوز أن يكون بدلا من " إذ أوحينا " وأخته اسمها مريم (فتقول هل أدلكم على من يكفله) وذلك أنها خرجت متعرفة لخبره فوجدت فرعون وامرأته آسية يطلبان له مرضعة، فقالت لهما هذا القول: أي هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه ويربيه، فقالا لها ومن هو؟ قالت أمي، فقالا هل لها لبن؟ قالت نعم لبن أخي هارون، وكان هارون أكبر من موسى بسنة، وقيل بأكثر، فجاءت الأم فقبل ثديها، وكان لا يقبل ثدي مرضعة غيرها، وهذا هو معنى (فرجعناك إلى أمك) وفى مصحف أبي " فرددناك "، والفاء فصيحة (كي تقر عينها) قرأ ابن عامر في رواية عبد الحميد عنه كي تقر بكسر القاف، وقرأ الباقون بفتحها. قال الجوهري: قررت به عينا قرة وقرورا، ورجل قرير العين، وقد قرت عينه تقر وتقر، نقيض سخنت، والمراد بقرة العين: السرور برجوع ولدها إليها بعد أن طرحته في البحر وعظم عليها فراقه (ولا تحزن) أي لا يحصل له ما يكدر ذلك السرور من الحزن بسبب من الأسباب، ولو أراد الحزن بالسبب الذي قرت عينها بزواله لقدم نفي الحزن على قرة العين، فيحمل هذا النفي للحزن على ما يحصل بسبب يطرأ بعد ذلك، ويمكن أن يقال إن الواو لما كانت لمطلق الجمع كان هذا الحمل غير متعين، وقيل المعنى: ولا تحزن أنت يا موسى بفقد إشفاقها، وهو تعسف (وقتلت نفسا) المراد بالنفس هنا: نفس القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، وكان قتله له خطأ (فنجيناك من الغم) أي الغم الحاصل معك من قتله خوفا من العقوبة الأخروية أو الدنيوية أو منهما جميعا، وقيل الغم هو القتل بلغة قريش، وما أبعد هذا (وفتناك فتونا) الفتنة تكون بمعنى المحنة، وبمعنى الأمر الشاق، وكل ما يبتلى به الإنسان، والفتون يجوز أن يكون مصدرا كالثبور والشكور والكفور:
أي ابتليناك ابتلاء، واختبرناك اختبارا، ويجوز أن يكون جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجور هذه في حجرة وبدور في بدرة: أي خلصناك مرة بعد مرة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن يصطفيه الله لرسالته، ولعل المقصود بذكر تنجيته من الغم الحاصل له بذلك السبب وتنجيته من المحن هو الامتنان عليه بصنع الله سبحانه له وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل (فلبثت سنين في أهل مدين) قال الفراء:
تقدير الكلام وفتناك فتونا، فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين ومثل هذا الحذف كثير في التنزيل، وكذا في كلام العرب فإنهم يحذفون كثيرا من الكلام إذا كان المعنى معروفا، ومدين هي بلد شعيب، وكانت على ثماني