الكلام في ماهية البيعة لا يخفى ان البيع والبيعة مصدران لباع، وحقيقتهما واحدة; فكما أن البيع معاملة خاصة تنتج تبادل المالين فكذلك المبايع للرئيس كأنه ببيعته له يجعل ماله وإمكاناته تحت تصرفه ويتعهد هو في قبال ذلك بالسعي في إصلاح شؤونه وتأمين مصالحه، فكأنها نحو تجارة بينهما.
وأنت تعلم أن المتعاملين حسب المتعارف يتقاولان أولا في مقدار العوضين و خصوصياتهما، ويتعقب ذلك الرضا من الطرفين، ولكن المقاولة والرضا من مقدمات المعاملة، وحقيقة المعاملة إنما تتحقق بإنشائها بالإيجاب والقبول أو بالمعاطاة أو بمصافقة الأيدي أو نحو ذلك.
فالمصافقة كانت من طرق إنشاء المعاملة عندهم، كما هو المعروف في أعصارنا أيضا في كثير من البلاد والقبائل، وكانت من أحكمها وأتقنها بحيث يقبح عندهم نقضها.
وعلى هذا فالذي ينسبق إلى الذهن في ماهية البيعة أنها كانت وسيلة لإنشاء التولية بعدما تحققت المقاولة والرضا; فكانت القبائل إذا أحست بالاحتياج إلى رئيس لحفظ نظامها والدفاع عنها في قبال الأجانب اجتمعت عند من تراه أهلا لذلك فتقاولوا وذكروا الحاجات والشروط، وبعد حصول التراضي كانوا ينشؤون ما تقاولوا عليه وتراضوا به بمصافقة الأيدي. وبالانشاء كانت تثبت الولاية، كما في البيع طابق النعل بالنعل. وكما أن المصافقة بالأيادي في البيع كانت إحدى الطرق للإنشاء ولكنها أحكم الطرق عندهم فكذلك في الولاية، فلذا كانوا يهتمون بخصوص البيعة.
فهذا، الذي نفهمه في تصوير ماهية البيعة، ولعله المستفاد من كلمات أهل اللغة أيضا.