فيتعين الثالث، أعني الانتخاب وهو المطلوب.
ولأجل ذلك استمرت سيرة العقلاء في جميع الأعصار والظروف على الاهتمام بذلك وتعيين الولاة والحكام بانتخاب ما هو الأصلح والأليق بنظر هم وإظهار التسليم والإطاعة له بالبيعة ونحوها من الطرق، ولم تخل حياة البشر حتى في الغابات وفي العصور الحجرية أيضا من دويلة ما تحقق كيانهم وتدافع عن مصالحهم.
والله - تعالى - جعل في الإنسان غريزة الانتخاب، ومدح عباده على إعمال هذه الغريزة وانتخاب المصداق الأحسن فقال: " فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. " (1) الأمر الثاني:
استمرار سيرة العقلاء في جميع الأعصار والظروف على الاستنابة في بعض الأعمال، وعلى تفويض ما يعسر إنفاذه مباشرة إلى من يقدر عليه ويتيسر له. ومن جملة ذلك، الأمور العامة التي يحتاج إليها المجتمع أو خوطب بها المجتمع ويتوقف إنفاذها على مقدمات كثيرة وقوات متعاضدة، كالدفاع عن البلاد وإيجاد الطرق و وسائل الارتباط والمخابرات العامة ونحوها مما لا يتيسر لكل فرد فرد تحصيلها شخصا ومباشرة، فينتخبون لذلك واليا متمكنا ويفوضونها إليه ويساعدونه على تحصيلها. ومن هذا القبيل أيضا إجراء الحدود والتعزيرات وفصل الخصومات، حيث إنه لا يتيسر لكل فرد فرد التصدي لها، بل يوجب ذلك الهرج والمرج واختلال النظام، فيفوض إجراؤها وتنفيذها إلى من يتبلور فيه كل المجتمع، وهو الوالي المنتخب من قبلهم. فوالي المجتمع كأنه ممثل لهم ونائب عنهم في إنفاذ الأمور العامة.
والاستنابة والتوكيل أمر عقلائي استمرت عليه السيرة في جميع الأعصار و أمضاه الشرع أيضا.