مع الآخرين، كما كان حرا من الناحية الطبيعية. ومن وظيفة المذهب الاجتماعي أن يتعارف بالنزعات والميول الأصيلة في الانسان، ويضمن إشباعها، لكي يصبح مذهبا واقعيا ينسجم مع الطبيعة الانسانية التي يعالجها ويشرع لها فلا يمكن لمذهب إذن أن يكبت في الانسان نزعته الأصيلة إلى الحرية.
وهذا صحيح إلى حد ما. ولكننا نقول من الناحية الأخرى: أن من وظيفة المذهب الاجتماعي، الذي يريد أن يرسي بنيانه على قواعد مكينة من النفس البشرية: أن يعترف بمختلف النزعات الأصيلة في الانسان، وبحاجاته الجوهرية المتنوعة، ويسعى إلى التوفيق والملائمة بينها. وليس من المستساغ لكي يكون المذهب واقعيا وإنسانيا، أن يعترف بإحدى تلك النزعات الأصيلة، ويضمن إشباعها إلى أقصى حد، على حساب النزعات الأخرى.
فالحرية مثلا وإن كانت نزعة أصيلة في الانسان، لأنه يرفض بطبعه القسر والضغط والاكراه، ولكن لهذا الإنسان حاجات جوهرية، وميولا أصيلة أخرى. فهو بحاجة ماسة - مثلا - إلى شيء من السكينة والاطمئنان في حياته، لأن القلق يرعبه كما ينغصه الضغط والاكراه. فإذا فقد كل الضمانات التي يمكن للمجتمع أن يؤديها له في حياته ومعيشته، خسر بذلك حاجة من حاجاته الجوهرية، وحرم من إشباع ميله الأصيل إلى الاستقرار والثقة، كما أنه إذا خسر حريته تماما، وقام جهاز اجتماعي يملي عليه ارادته بالضغط والاكراه. فكان قد فقد حاجة جوهرية أخرى، وهي حاجته إلى الحرية التي تعبر عن نزعة أصيلة في نفسه. فالتوفيق الدقيق الحكيم بين حاجة الانسان الأصيلة إلى الحرية، وحاجته الأصيلة إلى شيء من الاستقرار والثقة، وسائر حاجاته الأصيلة الأخرى. هو العلمية التي يجب أن يؤديها المذهب للانسانية، إذا حاول أن يكون واقعيا، قائما على أسس راسخة من الواقع الانساني. وإما أن تطرح الميول والحاجات الأخرى جانبا، ويضحي بها لحساب حاجة أصيلة واحدة، كي يتوفر إشباعها إلى ابعد الحدود كما فعل المذهب الرأسمالي. فهذا يتعارض مع أبسط الواجبات المذهبية.