وكان لهذين السببين أن يحبباه إلي أكثر فأكثر، فليس أعز علي من أن أجد وأدبنا العربي زاخر في أغلبه بالتلون والتملق شاعرا يلتزم خطا واضحا لا يكاد يحيد عنه، وليس أقرب إلى نفسي من أن أجد شاعرا يخرج عن دائرة الكذب على نفسه وعلى عصره فلا يمدح هذا الخليفة أملا بصلته، ولا يهجو ذاك الأمير يأسا من نواله.
وإزاء هذا وجدت في نفسي رغبة جامحة في جمع شعر هذا الشاعر ومحاولة التعريف به، والإشارة إلى مفاتح دراسته قدر الإمكان، لأني قد درسته دراسة مفصلة في ثنايا الرسالة المذكورة ولا أريد هنا أن أكرر ما قلته هناك.
1 اسمه ونسبه ومولده:
هو علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع (1). يكنى أبا الحسن وربما الحسين، ولكن ليس في ولده من اسمه الحسن أو الحسين، ويلقب بالعلوي الكوفي، والأفوه، والحماني، والأخير من أشهر ألقابه، وإنما عرف به لأنه كان ينزل بالكوفة في بني حمان فنسب إليهم... (2).
وأغلب الظن أن الشاعر ولد في الكوفة في سنة لم تؤرخها المصادر التي بين أيدينا ولم تورد ما يعين على تحديدها. ورغم هذا فمن المعاصرين من يرى أنه كان من المعمرين أدرك القرن الثالث من أوله إلى آخره وهو وهم مرده إلى أن الأميني يرى أن وفاة أبيه كان سنة 206 ه، وإلى ما شع بين المتأخرين من خلط بين شاعرنا وبين علي بن محمد بن جعفر الصادق المعروف بالديباجة (3).
وإزاء هذا فالإشارة الوحيدة التي وصلت إلينا إلى عمره قوله:
أعد سبعين ولو جملت * نعماؤها عادت إلى عام وإذا أخذنا بأنه أدرك آخر القرن الثالث أخذ ترجيح، قلنا إنه ولد في العقد الثاني أو الثالث من القرن الثالث.
2 نشأته ومنزلته ووفاته:
نشأ الحماني في بيت معرق في الشعر فقد كان يقول: أنا شاعر، وأبي شاعر، وجدي شاعر، وأبو جدي شاعر إلى أبي طالب وليس في قوله ادعاء أو مبالغة فقد وصل إلينا من شعر أبيه محمد بن جعفر مقاطيع، وعرف جده جعفر بالشاعر. ولكن هذه البيئة لم تدفعه إلى أن يأخذ علم العربية في صباه عمن يعرفه في الكوفة، إذ ظل يشكو ضعف ملكته في النحو واللغة وحتى الخط فاضطره هذا الضعف أحيانا إلى أن يهجر معاني مليحة تجيئه لأنه يشك في لغتها وفي اعرابها. ولا بد أن يكون في أسباب جهله هذا فقد الكوفة الحلقات العلمية في هذا القرن فنحن لا نعرف عالما كبيرا عاش فيها خلاله.
حظي محمد بن جعفر بمنزلة كبيرة في الكوفة ورثها عنه فيما يبدو ابنه علي الحماني، إذ كان كما يقول المسعودي عن مكانته بين العلويين في الكوفة: نقيبهم... وشاعرهم، ومدرسهم، ولسانهم، ولم يكن أحد بالكوفة من آل علي بن أبي طالب يتقدمه في ذلك الوقت. ومما يدلنا على هذه المكانة الرفيعة أن صاحب الجيش الذي لقي يحيى بن عمر العلوي الثائر بالكوفة فقتله، قعد الحماني عن السلام عليه ولم يلقه على حين لم يتخلف عن سلامه أحد من آل علي بن أبي طالب... فتفقده الحسن صاحب الجيش وسال عنه وبعث بجماعة فاحضروه، فأنكر الحسن تخلفه عن سلامه، فاجابه علي بن محمد بجواب آيس من الحياة فقال: أردت أن آتيك مهنئا بالفتح، وداعيا بالظفر؟ وأنشد شعرا لا يقوم على مثله من يرغب في الحياة.... ولعل الموفق قد أدرك أن هذه المنزلة مما يؤهله لأن يجمع الأنصار وأن يثور بهم، فحبسه مدة طويلة لأمر شنع به عليه من أنه يريد الظهور فلم يطلقه حتى كتب إليه:
قد كان جدك عبد الله خير أب * لابني علي حسين الخير والحسن فالكف يوهن منها كل أنملة * ما كان من أختها الأخرى من الوهن فعاد إلى الكوفة وظل بها إلى أن توفي في سنة 301 ه على ما يرجح الأميني.
3 شعره:
كان شعر الحماني مجموعا في ديوان حتى القرن التاسع، فقد قال ابن عنبة المتوفى سنة 828 ه: له ديوان مشهور وشعر مذكور، وذكر إسماعيل البغدادي هذا الديوان ولكننا اليوم لا نعرف من أمره شيئا.
وشعر الحماني الذي وصل إلينا موزع على أغراض عديدة منها:
الشكوى، والفخر، والغزل، والرثاء، والإخوانيات، والسياسة، والعقيدة. والاتجاهان الأخيران أغلب على شعره، بل إنك لتجد العقيدة غالبة حتى على بعض أخوانياته. ومن هنا رأينا العلويين يعتزون بشعره فيقول فيه الإمام علي الهادي ع إنه أشعر العرب، ويقول فيه الناصر الأطروش:
لو جاز قراءة شعر في الصلاة لكان شعر الحماني. ولا بد أن يكون في أسباب اتجاه الحماني إلى السياسة والعقيدة، منزلته الكبيرة، ونسبه العلوي، وتشيعه. زد على ذلك ما اضطلعت به الكوفة من دور سياسي بارز في هذا القرن وقبله، فقد شهدت خلال القرن الثالث وحده ما يقرب من خمس ثورات كان آخرها ثورة القرامطة.
وشعر الحماني صدى أمين لعصره من الناحية الفنية فضلا عن الناحية التاريخية. فهو حافل على غير إسراف بمذهب البديع، ابتداء بالتشخيص وانتهاء بحسن التعليل. كما أن ما شاع في عصره من تحلل من بعض قيود العربية موجود في شعره ابتداء برفع الحال وانتهاء بتصريف الأفعال.
والثقافة الشعرية والأثرية التي حفل بها شعر القرن الثالث كان لها صدى في شعره أيضا، ففي بعضه تضمين لأبيات مشهورة، واقتباسات من الحديث النبوي الشريف. أما شيوع استعمال البحور النادرة والقصيرة في شعر هذا القرن، فقد وجد له مكانا في شعره أيضا فنظم في مجازيء البحور والبحور القصيرة.