والاسراج، أعني طلبه والميل إليه، لارتباط غرضه به، فإن ثبت أن الامر يرجع إلى هذه الإرادة لزم اقتران الامر، والإرادة في حق الله تعالى، حتى لا تكون المعاصي الواقعة إلا مأمورا بها مرادة إذ الكائنات كلها مرادة، أو ينكر وقوعها بإرادة الله، فيقال: إنها على خلاف إرادته، وهو شنيع إذ يؤدي إلى أن يكون ما يجري في ملكه، على خلاف ما أراد أكثر مما يجري على وفق إرادته، وهي الطاعات، وذلك أيضا منكر، فما المخلص من هذه الورطة؟ قلنا: هذه الضرورة التي دعت الأصحاب إلى تمييز الامر عن الإرادة فقالوا: قد يأمر السيد عبده بما لا يريده، كالمعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده إذا مهد عنده عذره لمخالفة أوامره فقال له بين يدي الملك: أسرج الدابة، وهو يريد أن لا يسرج إذ في إسراجه خطر وإهلاك للسيد، فيعلم أنه لا يريده، وهو آمرا إذ لولاه لما كان العبد مخالفا ولما تمهد عذره عند السلطان وكيف لا يكون آمرا وقد منهم العبد والسلطان والحاضرون منه الامر، فدل أنه قد يأمر بما لا يريده هذا منتهى كلامهم، وتحته غور لو كشفناه لم تحتمل لأصول التفصي عن عهدة ما يلزم منه ولتزلزلت به قواعد لا يمكن تداركها إلا بتفهيمها على وجه يخالف ما سبق إلى أوهام أكثر المتكلمين، والقول فيه يطول ويخرج عن خصوص مقصود الأصول.
النظر الثاني: في الصيغة وقد حكى بعض الأصوليين خلافا في أن الامر هل له صيغة، وهذه الترجمة خطأ، فإن قول الشارع: أمرتكم بكذا وأنتم مأمورون بكذا، أو قول الصحابي: أمرت بكذا، كل ذلك صيغ دالة على الامر، وإذا قال: أوجبت عليكم أو فرضت عليكم، أو أمرتكم بكذا وأنتم معاقبون على تركه، فكل ذلك يدل على الوجوب، ولو قال: أنتم مثابون على فعل كذا ولستم معاقبين على تركه فهو صيغة دالة على الندب، فليس في هذا خلاف، وإنما الخلاف في أن قوله: إفعل، هل يدل على الامر بمجرد صيغته إذا تجرد عن القرائن، فإنه قد يطلق على أوجه: منها بالوجوب، كقوله: أقم الصلاة [لقمان: 17] والندب، كقوله: فكاتبوهم والارشاد، كقوله: واستشهدوا [البقرة:
282) والإباحة، كقوله: فاصطادوا، والتأديب، كقوله لابن عباس: كل مما يليك والامتنان، كقوله: كلوا مما رزقكم الله، وإلا كرام، كقوله:
* (ادخلوها بسلام آمنين) * (الحجر: 64) والتهديد كقوله: * (اعملوا ما شئتم) * (فصلت:
40) والتسخير كقوله: * (كونوا قردة خاسئين) * (البقرة: 56) والإهانة كقوله: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (الدخان: 94) والتسوية كقوله: * (فاصبروا أو لا تصبروا) * (الطور: 61) والانذار كقوله: * (كلوا وتمتعوا) * (المرسلات: 64). والدعاء كقوله: اللهم اغفر لي والتمني كقول الشاعر: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ولكمال القدرة كقوله: * (كن فيكون) * (البقرة 117، آل عمران: 47، 59، الانعام: 73، النحل:
40، مريم: 35، يس 28، غافر: 86) وأما صيغة النهي وهو قوله: لا تفعل، فقد تكون للتحريم وللكراهية والتحقير، كقوله: * (لا تمدن عينيك) * (الحجر: 88) ولبيان العاقبة كقوله: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) * (إبراهيم: 24) وللدعاء كقوله: ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولليأس كقوله: * (لا تعتذروا اليوم) * (التحريم: