وقال ابن الرومي منبها على سبب حب الأوطان:
وحبب أوطان الرجال إليهم * مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم * عهود الصبا فيها فحنوا لذالكا وشواهد ذلك مما يكثر، وكل ذلك من حكم الوهم، وأما الصبر على السيف في ترك كلمة الكفر مع طمأنينة النفس فلا يستحسنه جميع العقلاء لولا الشرع، بل ربما استقبحوه، وإنما استحسنه من ينتظر الثواب على الصبر، أو من ينتظر الثناء عليه بالشجاعة والصلابة في الدين، وكم من شجاع يركب متن الخطر، ويتهجم على عددهم أكثر منه، وهو يعلم أنه لا يطيقهم، ويستحقر ما يناله من الألم لما يعتاضه من توهم الثناء والحمد ولو بعد موته، وكذلك إخفاء السر، وحفظ العهد إنما تواصى الناس بهما لما فيهما من المصالح، وأكثروا الثناء عليهما، فمن يحتمل الضرر فيه فإنما يحتمله لأجل الثناء، فإن فرض حيث لا ثناء فقد وجد مقرونا بالثناء، فيبقى ميل الوهم إلى المقرون باللذيذ، وإن كان خاليا عنه، فإن فرض من لا يستولي عليه هذا الوهم، ولا ينتظر الثواب والثناء فهو مستقبح للسعي في هلاك نفسه بغير فائدة ويستحمق من يفعل ذاك قطعا، فمن يسلم أن مثل هذا يؤثر الهلاك على الحياة، وعلى هذا يجري الجواب عن الكذب، وعن جميع ما يفرضونه، ثم نقول: نحن لا ننكر أن أهل العادة يستقبح بعضهم من بعض الظلم والكذب، وإنما الكلام في القبح والحسن، بالإضافة إلى الله تعالى ومن قضى به فمستنده قياس الغائب على الشاهد، وكيف يقيس والسيد لو ترك عبيده وإماءه وبعضهم يموج في بعض ويرتكبون الفواحش وهو مطلع عليهم وقادر على منعهم لقبح منه، وقد فعل الله تعالى ذلك بعباده، ولم يقبح منه، وقولهم أنه تركهم لينزجروا بأنفسهم فيستحقوا الثواب هوس، لأنه علم أنهم لا ينزجرون، فليمنعهم قهرا، فكم من ممنوع عن الفواحش بعنة أو عجز، وذلك أحسن من تمكينهم، مع العلم لانهم لا ينزجرون.
- مسألة (شكر الخالق) لا يجب شكر المنعم عقلا، خلافا للمعتزلة، ودليله أن لا معنى للواجب إلا ما أوجبه الله تعالى وأمر به وتوعد بالعقاب على تركه، فإذا لم يرد خطاب فأي معنى للوجوب؟
ثم تحقيق القول فيه أن العقل لا يخلو إما أن يوجب ذلك لفائدة أو لا لفائدة، ومحال أن يوجب لا لفائدة، فإن ذلك عبث وسفه، وإن كان لفائدة فلا يخلو إما أن ترجع إلى المعبود وهو محال إذ يتعالى ويتقدس عن الأغراض أو إلى العبد، وذلك لا يخلو إما أن تكون في الدنيا أو في الآخرة، ولا فائدة له في الدنيا، بل يتعب بالنظر والفكر والمعرفة والشكر، ويحرم به عن الشهوات واللذات، ولا فائدة له في الآخرة، فإن الثواب تفضل من الله يعرف بوعده وخبره فإذا لم يخبر عنه فمن أين يعلم أنه يثاب عليه؟ فإن قيل: يخطر له أنه إن كفر وأعرض ربما يعاقب، والعقل يدعو إلى سلوك طريق الامن؟ قلنا: لا بل العقل يعرف طريق الامن ثم الطبع يستحث على سلوكه، إذ كل إنسان مجبول على حب نفسه وعلى كراهة الألم، فقد غلطتم في قولكم أن العقل داع، بل العقل هاد، والبواعث والدواعي تنبعث من النفس تابعة لحكم العقل، وغلطتم أيضا في قولكم أنه يثاب على جانب الشكر والمعرفة خاصة، لان هذا الخاطر مستنده توهم غرض في جانب الشكر يتميز به عن الكفر وهما متساويان بالإضافة إلى