الأصولي، وأما كلام النفس في حقنا، فهو يتعدد كما تتعدد العلوم، ويفارق كلامه كلامنا من وجه آخر، وهو أن أحدا من المخلوقين لا يقدر على أن يعرف غيره كلام نفسه إلا بلفظ أو رمز أو فعل والله تعالى قادر على أن يخلق لمن يشاء من عباده علما ضروريا بكلامه من غير توسط حرف وصوت ودلالة، ويخلق لهم السمع أيضا بكلامه من غير توسط صوت وحرف ودلالة، ومن سمع ذلك من غير توسط فقد سمع كلام الله تحقيقا، وهو خاصية موسى صلوات الله تعالى عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء، وأما من سمعه من غيره ملكا كان أو نبيا كان تسميته سامعا كلام الله تعالى، كتسميتنا من سمع شعر المتنبي من غيره بأنه سمع شعر المتنبي، وذلك أيضا جائز، ولاجله قال الله تعالى: * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) * (التوبة: 6).
النظر الثاني في حده وحد الكتاب ما نقل إلينا بين دفتي المصحف على الأحرف السبعة المشهورة، نقلا متواترا، ونعني بالكتاب القرآن المنزل، وقيدناه بالمصحف لان الصحابة بالغوا في الاحتياط في نقله، حتى كرهوا التعاشير والنقط، وأمروا بالتجريد كيلا يختلط بالقرآن غيره، ونقل إلينا متواترا، فعلم أن المكتوب في المصحف المتفق عليه هو القرآن، وأن ما هو خارج عنه فليس منه، إذ يستحيل في العرف والعادة مع توفر الدواعي على حفظه أن يهمل بعضه، فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه، فإن قيل: هلا حددت تموه بالعجز؟ قلنا: لا، لان كونه معجزا يدل على صدق الرسول عليه السلام، لا على كونه كتاب الله تعالى لا محالة، إذ يتصور الاعجاز بما ليس بكتاب الله تعالى: ولان بعض الآية ليس بمعجز، وهو من الكتاب، فإن قيل: فلم شرطتم التواتر؟ قلنا: ليحصل العلم به، لان الحكم بما لا يعلم جهل وكون، الشئ كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي، حتى يتعلق بظننا، فيقال إذا ظننتم كذا فقد حرمنا عليكم فعلا أو حللناه لكم، فيكون التحريم معلوما عند ظننا ويكون ظننا علامة يتعلق التحريم به، لان التحريم بالوضع، فيمكن الوضع عند الظن، وكون الشئ كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي، فالحكم فيه بالظن جهل، ويتشعب عن حد الكلام مسألتان:
- مسألة (حكم تتابع الصيام في كفارة اليمين) التتابع في صوم كفارة اليمين ليس بواجب على قول، وإن قرأ ابن مسعود:
فصيام ثلاثة أيام متتابعات، لأن هذه الزيادة لم تتواتر، فليست من القرآن، فتحمل على أنه ذكرها في معرض البيان لما اعتقده مذهبا، فلعله اعتقد التتابع حملا لهذا المطلق على المقيد بالتتابع في الظهار، وقال أبو حنيفة يجب، لأنه وإن لم يثبت كونه قرآنا فلا أقل من كونه خبرا، والعمل يجب بخبر الواحد، وهذا ضعيف، لان خبر الواحد لا دليل على كذبه، وهو أن جعله من القرآن فهو خطأ قطعا، لأنه وجب على رسول الله (ص) أن يبلغه طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم، وكان لا يجوز له مناجاة الواحد به، وإن لم يجعله من القرآن احتمل أن يكون ذلك مذهبا له، لدليل قد دله عليه، واحتمل أن يكون خبرا، وما تردد بين أن يكون خبرا أو لا يكون فلا يجوز العمل به، وإنما يجوز العمل بما يصرح الراوي بسماعه من رسول الله (ص).