قلنا: هذا محال، فإن العاقبة مستورة عنه، فإذا سألنا وقال: العاقبة مستورة عني وعلي صوم يوم، وأنا أريد أن أؤخره إلى غد، فهل يحل لي التأخير مع الجهل بالعاقبة أم أعصي بالتأخير؟
فلا بدل له من جواب، فإن قلنا: لا يعصي فلم أثم بالموت الذي ليس إليه، وإن قلنا:
يعصي فهو خلاف الاجماع في الواجب الموسع، وإن قلنا: إن كان في علم الله تعالى أنك تموت قبل الغد فأنت عاص، وإن كان في علمه أن تحيا فلك التأخير، فيقول: وما يدريني ماذا في علم الله، فما فتواكم في حق الجاهل؟ فلا بد من الجزم بالتحليل أو التحريم، فإن قيل:
فإن جاز تأخيره أبدا ولا يعصي إذا مات، فأي معنى لوجوبه؟ قلنا: تحقق الوجوب بأنه لم يجز التأخير إلا بشرط العزم، ولا يجوز العزم على التأخير إلا إلى مدة يغلب على ظنه البقاء إليها، كتأخيره الصلاة من ساعة إلى ساعة، وتأخيره الصوم من يوم إلى يوم مع العزم على التفرغ له في كل وقت، وتأخيره الحج من سنة إلى سنة، فلو عزم المريض المشرف على الهلاك على التأخير شهرا، أو الشيخ الضعيف على التأخير سنين وغالب ظنه أنه لا يعيش إلى تلك المدة عصي بهذا التأخير، وإن لم يمت ووفق للعمل لكنه مأخوذ بموجب ظنه، كالمعزر إذا ضرب ضربا يهلك، أو قاطع سلعة وغالب ظنه الهلاك أثم وإن سلم، ولهذا قال أبو حنيفة: لا يجوز تأخير الحج، لان البقاء إلى سنة لا يغلب على الظن، وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر وشهرين فجائز، لأنه لا يغلب على الظن الموت إلى تلك المدة، والشافعي رحمه الله يرى البقاء إلى السنة الثانية غالبا على الظن في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض، ثم المعزر إذا فعل ما غالب ظنه السلامة فهلك ضمن، لا لأنه آثم، لكن لأنه أخطأ في ظنه والمخطئ ضامن غير آثم.
مسألة (ما لا يتم الواجب إلا به) اختلفوا في أن ما لا يتم الوجب إلا به، هل يوصف بالوجوب؟ والتحقيق في هذا أن هذا ينقسم إلى ما ليس إلى المكلف، كالقدرة على الفعل، وكاليد في الكتابة، وكالرجل في المشي، فهذا لا يوصف بالوجوب، بل عدمه يمنع الايجاب إلا على مذهب من يجوز تكليف ما لا يطاق، وكذلك تكليف حضور الامام الجمعة، وحضور تمام العدد، فإنه ليس إليه فلا يوصف بالوجوب، بل يسقط بتعذره الواجب. وأما ما يتعلق باختيار العبد فينقسم إلى الشرط الشرعي وإلى الحسي. فالشرعي: كالطهارة في الصلاة يجب وصفها بالوجوب عند وجوب الصلاة، فإن إيجاب الصلاة إيجاب لما يصير به الفعل صلاة. وأما الحسي: فكالسعي إلى الجمعة، وكالمشي إلى الحج وإلى مواضع المناسك، فينبغي أن يوصف أيضا بالوجوب إذ أمر البعيد عن البيت بالحج أمر بالمشي إليه لا محالة، وكذلك إذا وجب غسل الوجه ولم يمكن إلا بغسل جزء من الرأس، وإذا وجب الصوم ولم يمكن إلا بالامساك جزء من الليل قبل الصبح، فيوصف ذلك بالوجوب ونقول: ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به وهو فعل المكلف فهو واجب، وهذا أولى من أن نقول: يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب، إذ قولنا:
يجب فعل ما ليس بواجب متناقض، وقولنا: ما ليس بواجب صار واجبا غير متناقض فإنه واجب، لكن الأصل وجب بالايجاب قصدا إليه، والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود وقد وجب كيفما كان، وإن كان علة وجوبه غير علة وجوب المقصود، فإن قيل لو كان واجبا