سمعه شفاعا فأما نحن فلا يبلغنا قوله إلا على لسان المخبرين إما على سبيل التواتر وإما بطريق الآحاد، فلذلك اشتمل الكلام في هذا الأصل على مقدمة وقسمين: قسم في أخبار التواتر، وقسم في أخبار الآحاد، ويشتمل كل قسم على أبواب.
أما المقدمة: ففي بيان ألفاظ الصحابة رضي الله عنهم في نقل الاخبار عن رسول الله (ص)، وهو على خمس مراتب: الأولى: وهي أقواها، أن يقول الصحابي سمعت رسول الله (ص) يقول كذا، أو أخبرني أو حدثني أو شافهني، فهذا لا يتطرق إليه الاحتمال وهو الأصل في الرواية والتبليغ، قال (ص):
نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث. الثانية: أن يقول: قال رسول الله (ص) كذا، أخبر، أو أخبر، أو حدث فهذا ظاهره النقل إذا صدر من الصحابي، وليس نصا صريحا، إذ قد يقول الواحد منا: قال رسول الله (ص)، اعتمادا على ما نقل إليه، وإن لم يسمعه منه فلا يستحيل أن يقول الصحابي ذلك اعتمادا على ما بلغه تواترا، أو بلغه على لسان من يثق به، ودليل الاحتمال ما روى أبو هريرة عن رسول الله (ص) أنه قال: من أصبح جنبا فلا صوم له فلما استكشف قال:
حدثني به الفضل بن عباس، فأرسل الخبر أولا ولم يصرح، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله (ص): إنما الربا في النسيئة فلما روجع فيه أخبر أنه سمعه من أسامة بن زيد إلا أن هذا وإن كان محتملا فهو بعيد، بل الظاهر أن الصحابي إذا قال: قال رسول الله (ص)، فما يقوله إلا وقد سمع رسول الله (ص) بخلاف من لم يعاصر إذا قال: قال رسول الله (ص)، فإن قرينة حاله تعرف أنه لم يسمع، ولا يوهم إطلاقه السماع، بخلاف الصحابي فإنه إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوهم السماع، فلا يقدم عليه إلا عن سماع هذا هو الظاهر وجميع الأخبار إنما نقلت إلينا كذلك، إذ يقال: قال أبو بكر: قال رسول الله (ص) قال عمر قال رسول الله (ص)، فلا نفهم من ذلك إلا السماع. الثالثة: أن يقول الصحابي: أمر رسول الله (ص) بكذا أو نهى عن كذا، فهذا يتطرق إليه احتمالان: أحدهما: في سماعه، كما في قوله: قال. والثاني: في الامر إذ ربما يرى ما ليس بأمر أمرا، فقد اختلف الناس في أن قوله إفعل هو للامر، فلأجل هذا قال بعض أهل الظاهر لا حجة فيه ما لم ينقل اللفظ، والصحيح أنه لا يظن بالصحابي إطلاق ذلك إلا إذا علم تحقيقا أنه أمر بذلك، وأن يسمعه يقول: أمرتكم بكذا، أو يقول: إفعلوا، وينضم إليه من القرائن ما يعرفه كونه أمرا ويدرك ضرورة قصده إلى الامر، أما احتمال بنائه الامر على الغلط والوهم فلا نطرقه إلى الصحابة بغير ضرورة، بل يحمل ظاهر قولهم وفعلهم على السلامة ما أمكن، ولهذا لو قال: قال رسول الله (ص) كذا، ولكن شرط شرطا ووقت وقتا فيلزمنا اتباعه، ولا يجوز أن نقول لعله غلط في فهم الشرط والتأقيت، ورأى ما ليس بشرط شرطا، ولهذا يجب أن يقبل قول الصحابي نسخ حكم كذا، وإلا فلا فرق بين قوله: نسخ، وقوله: أمر، ولذلك قال علي رضي الله عنه وأطلق: أمرت أن أقاتل الناكثين والمارقين