الفصل الثاني في الشروط: وهي ثلاثة: الأول: الاتصال، فمن قال: اضرب المشركين: ثم قال بعد ساعة: إلا زيدا لم يعد هذا كلاما، بخلاف ما لو قال: أردت بالمشركين قوما ما دون قوم، ونقل عن ابن عباس أنه جوز تأخير الاستثناء، ولعله لا يصح عنه النقل، إذ لا يليق ذلك بمنصبه، وأن صح فلعله أراد به إذا نوى الاستثناء أولا ثم أظهر نيته بعده فيدين بينه وبين الله فيما نواه، ومذهبه أن ما يدين فيه العبد فيقبل ظاهرا أيضا فهذا له وجه.
أما تجويز التأخير لو أجيز عليه دون هذا التأويل، فيرد عليه اتفاق أهل اللغة على خلافه لأنه جزء من الكلام يحصل به الاتمام، فإذا انفصل لم يكن إتماما كالشرط وخبر المبتدأ، فإنه لو قال: اضرب زيدا إذا قام فهذا شرط، فلو أخر ثم قال: بعد شهر، إذا قام لم يفهم هذا الكلام فضلا عن أن يصير شرطا، وكذلك قوله: إلا زيدا بعد شهر لا يفهم، وكذلك لو قال زيد، ثم قال بعد شهر: قام لم يعد هذا خبرا أصلا، ومن ههنا قال قوم يجوز التأخير لكن بشرط أن يذكر عند قوله: إلا زيدا أني أريد الاستثناء حتى يفهم، وهذا أيضا لا يغني فإن هذا لا يسمى استثناء. احتجوا بجواز تأخير النسخ وأدلة التخصيص وتأخير البيان فنقول:
إن جاز القياس في اللغة فينبغي أن يقاس عليه الشرط والخبر، ولا ذاهب إليه لأنه لا قياس في اللغات، وكيف يشبه بأدلة التخصيص وقوله: إلا زيدا يخرج عن كونه مفهوما، فضلا عن أن يكون إتماما للكلام الأول. والشرط الثاني: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، كقوله رأيت الناس إلا زيدا، ولا تقول: رأيت الناس إلا حمارا، أو تستثنى جزءا مما دخل تحت اللفظ كقوله: رأيت الدار إلا بابها، ورأيت زيدا إلا وجهه، وهذا استثناء من غير الجنس، لان اسم الدار لا ينطلق على الباب، واسم زيد على وجهه، بخلاف قوله: مائة ثوب إلا ثوبا، وعن هذا قال قوم: ليس مشرط الاستثناء أن يكون من الجنس، قال الشافعي: لو قال: علي مائة درهم إلا ثوبا صح ويكون معناه: إلا قيمة ثوب، ولكن إذا رد إلى القيمة فكأنه تكلف رده إلى الجنس، وقد ورد الاستثناء من غير الجنس، كقوله تعالى:
* (فسجد الملائكة كلهم أجمعون كيف) * (الحجر: 03 - 13) ولم يكن من الملائكة، فإنه قال: * (إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) * (الكهف: 05) وقال تعالى: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) * (النساء: 29) استثنى الخطأ من العمد، وقال تعالى:
* (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) * (الشعراء: 77) وقال: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة) * (النساء: 92) وقال تعالى: * (وما لاحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الاعلى) (الليل: 91 - 02) وهذا الاستثناء ليس فيه معنى التخصيص والاخراج إذ المستثنى ما كان ليدخل تحت اللفظ أصلا، ومن معتاد كلام العرب ما في الدار رجل إلا امرأة، وما له ابن إلا ابنة، وما رأيت أحدا إلا ثورا، وقال شاعرهم:
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس وقال آخر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب