المستصفى - الغزالي - الصفحة ٣٩
عليها في مقدمات البرهان، فإن هذه القضايا ليست أولية ولا وهمية، فإن الفطرة الأولى لا تقضي بها بل إنما ينغرس قبولها في النفس بأسباب كثيرة تعرض من أول الصبا، وذلك بأن تكرر على الصبي، ويكلف اعتقادها ويحسن ذلك عنده وربما يحمل عليها حب التسالم وطيب المعاشرة، وربما تنشأ من الحنان ورقة الطبع، فترى أقواما يصدقون بأن ذبح البهائم قبيح ويمتنعون عن أكل لحومها وما يجري هذا المجرى فالنفوس المجبولة على الحنان والرقة أطوع لقبولها، وربما يجبل على التصديق بها الاستقراء الكثير، وربما كانت القضية صادقة ولكن بشرط دقيق لا يفطن الذهن لذلك الشرط، ويستمر على تكرير التصديق فيرسخ في نفسه كمن يقول مثلا: التواتر لا يورث العلم لان كل واحد من الآحاد لا يورث العلم، فالمجموع لا يورث، لأنه لا يزيد على الآحاد، وهذا غلط، لان قول الواحد لا يوجب العلم بشرط الانفراد وعند التواتر فات هذا الشرط، فيذهل عن هذا الشرط لدقته ويصدق به مطلقا وكذلك يصدق بقوله: إن الله على كل شئ قدير مع أنه ليس قادرا على خلق ذاته وصفاته وهو شئ لكن هو قدير على كل شئ بشرط كونه ممكنا في نفسه، فيذهل عن هذا الشرط ويصدق به مطلقا لكثرة تكرره على اللسان، ووقع الذهول عن شرطه الدقيق، وللتصديق بالمشهورات أسباب كثيرة، وهي من مثارات الغلط العظيمة، وأكثر قياسات المتكلمين والفقهاء مبنية على مقدمات مشهورة يسلمونها بمجرد الشهرة، فلذلك ترى أقيستهم تنتج نتائج متناقضة فيتحيرون فيها، فإن قلت: فبم يدرك الفرق بين المشهور والصادق، فأعرض قول القائل: العدل جميل والكذب قبيح على العقل الأول الفطري الموجب للأوليات، وقدر أنك لم تعاشر أحدا ولم تخالط أهل ملة ولم تأنس بمسموع، ولم تتأدب باستصلاح، ولم تهذب بتعليم أستاذ ومرشد، وكلف نفسك أن تشكك فيه، فإنك تقدر عليه وتراه متأتيا وإنما الذي يعسر عليك هذه التقديرات أنك على حالة تضادها، فإن تقدير الجوع في حال الشبع عسير، وكذا تقدير كل حالة أنت منفك عنها في الحال، ولكن إذا تحذقت فيها أمكنك التشكك، ولو كلفت نفسك الشك في أن الاثنين أكثر من الواحد لم يكن الشك متأتيا، بل لا يتأتى الشك في أن العالم ينتهي إلى خلاء أو ملاء وهو كاذب وهمي، لكن فطرة الوهم تقتضيه، والآخر يقتضيه فطرة العقل، وأما كون الكذب قبيحا فلا يقتضيه فطرة العقل الوهم ولا فطرة العقل، بل ما ألفه الانسان من العادات والأخلاق والاستصلاحات وهذه أيضا معارضة مظلمة يجب التحرز عنها، فهذا القدر كاف في المقدمات التي منها ينتظم البرهان، فالمستفاد من المدارك الخمسة بعد الاحتراز عن مواقع الغلط فيها يصلح لصناعة البرهان، والمستفاد من غلط الوهم لا يصلح البتة، والمشهورات تصلح للفقهيات الظنية والأقيسة الجدلية، ولا تصلح لإفادة اليقين البتة.
الفن الثالث: من دعامة البرهان في اللواحق وفيه فصول:
الفصل الأول في بيان أن ما تنطق به الألسنة في معرض الدليل والتعليل في جميع أقسام العلوم يرجع إلى الضروب التي ذكرناها، فإن لم يرجع إليها لم يكن دليلا، وحيث يذكر لا على ذلك النظم فسببه إما قصور علم الناظر أو إهماله إحدى المقدمتين للوضوح، أو لكون التلبيس في ضمنه حتى لا ينتبه له، أو لتركيب الضروب وجمع جملة منها في سياق
(٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 ... » »»
الفهرست