ووجب علينا قبول خبر الواحد، وذلك عند ظن الصدق، والظن معلوم ووجوب الحكم عند الظن معلوم، بدليل سمعي قاطع، فهذا الحكم قاطع، والتقليد جهل، فإن قيل: فقد رفعتم التقليد من الدين، وقد قال الشافعي رحمه الله: ولا يحل تقليد أحد سوى النبي عليه السلام، فقد أثبت تقليدا؟ قلنا: قد صرح بإبطال التقليد رأسا إلا ما استثنى فظهر أنه لم يجعل الاستفتاء وقبول خبر الواحد وشهادة العدول تقليد، نعم: يجوز تسمية قبول قول الرسول تقليدا توسعا واستثناؤه من غير جنسه، ووجه التجوز أن قبول قوله وإن كان لحجة دلت على صدقه جملة فلا تطلب منه حجة على غير تلك المسألة، فكأنه تصديق بغير حجة خاصة، ويجوز أن يسمى ذلك تقليدا مجازا.
- مسألة (فتوى العامي للعلماء العدول) لا يستفتي العامي إلا من عرفه بالعلم والعدالة، أما من عرفه بالجهل فلا يسأله وفاقا وأن سأل من لا يعرف جهله فقد قال قوم: يجوز، وليس عليه البحث، وهذا فساد لان كل من وجب عليه قبول قول غيره فيلزمه معرفة حاله، فيجب على الأمة معرفة حال الرسول بالنظر في معجزته، فلا يؤمن بكل مجهول يدعي أنه رسول الله، ووجب على الحاكم معرفة حال الشاهد في العدالة، وعلى المفتي معرف حال الراوي، وعلى الرعية معرفة حال الامام والحاكم، وعلى الجملة: كيف يسأل من يتصور أن يكون أجهل من السائل؟ فإن قيل: إذا لم يعرف عدالة المفتي هل يلزمه البحث إن قلتم يلزمه البحث، فقد خالفتم العادة، لان من دخل بلدة فيسأل عالم البلدة ولا يطلب حجة على عدالته، وإن جوزتم مع الجهل فكذلك في العلم؟ قلنا: من عرفه بالفسق فلا يسأله، ومن عرفه بالعدالة فيسأله، ومن لم يعرف حاله فيحتمل أن يقال لا يهجم بل يسأل عن عدالته أولا فإنه لا يأمن كذبه وتلبيسه ويحتمل أن يقال: ظاهر حال العالم العدالة، لا سيما إذا اشتهر بالفتوى، ولا يمكن أن يقال: ظاهر حال الخلق العلم ونيل درجة الفتوى، والجهل أغلب على الخلق، فالناس كلهم عوام إلا الافراد بل العلماء كلهم عدول إلا الآحاد، فإن قيل: فإن وجب السؤال لمعرفة عدالته أو علمه فيفتقر إلى التواتر أم لا يفتقر إليه، قيل يحتمل أن يقال ذلك، فإن ذلك ممكن، ويحتمل أن يقال يكفي غالب الظن الحاصل بقول عدل أو عدلين، وقد جوز قوم العمل بإجماع نقله العدل الواحد، وهذا يقرب منه من وجه.
- مسألة (تعدد العلماء بالنسبة لسؤال العامي) إذا لم يكن في البلدة إلا مفت واحد، وجب على العامي مراجعته، وإن كانوا جماعة فله أن يسأل ممن شاء ولا يلزمه مراجعة الأعلم كما فعل في زمان الصحابة إذ سأل العوام الفاضل والمفضول، ولم يحجر على الخلق في سؤال غير أبي بكر وعمر وغير الخلفاء، وقال قوم: تجب مراجعة الأفضل، فإن استووا تخير بينهم، وهذا يخالف إجماع الصحابة إذ لم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى، بل لا تجب إلا مراجعة من عرفه بالعلم والعدالة، وقد عرف كلهم بذلك، نعم إذا اختلف عليه مفتيان في حكم فإن تساويا راجعهما مرة أخرى، وقال: تناقض فتواكما وتساويتما عندي فما الذي يلزمني؟ فإن خيراه تخير، وإن اتفقا على الامر بالاحتياط أو الميل إلى جانب معين فعل، وإن أصرا على الخلاف لم يبق إلا التخيير، فإنه لا سبيل إلى تعطيل الحكم وليس أحدهما بأولى من الآخر، والأئمة كالنجوم، فبأيهم اقتدى