فسبيلنا أن لا ننسب إليهم ما لم يصرحوا به، وأن نتوقف عن التقول والاختراع عليهم، وهذا كقولنا بالاتفاق أنا رأيناهم يستعملون لفظ الفرقة والجماعة، والنفر تارة في الثلاثة، وتارة في الأربعة، وتارة في الخمسة، فهي لفظة مرددة، ولا سبيل إلى تخصيصها بعدد على سبيل الحكم وجعلها مجازا في الباقي.
السؤال الثالث: قولهم إن هذا ينقلب عليكم في قولكم إن هذه الصيغة مشتركة اشتراك لفظ الجارية بين المرأة والسفينة، والقرء بين الطهر والحيض، فإنه لم ينقل أنه مشترك؟ قلنا: لسنا نقول أنه مشترك، لكنا نقول: نتوقف في هذه أيضا، فلا ندري أنه وضع لأحدهما وتجوز به عن الآخر، أو وضع لهما معا، ويحتمل أن نقول أنه مشترك، بمعنى أنا إذا رأيناهم أطلقوا اللفظ لمعنيين ولم يوقفونا على أنهم وضعوه لأحدهما وتجوزوا به في الآخر، فنحمل إطلاقهم فيهما على لفظ الوضع لهما، وكيفما قلنا فالامر فيه قريب.
شبه المخالفين الصائرين إلى أنه للندب وقد ذهب إليه كثير من المتكلمين وهم المعتزلة وجماعة من الفقهاء، ومنهم من نقله عن الشافعي، وقد صرح الشافعي في كتاب أحكام القرآن بتردد الامر بين الندب والوجوب وقال: النهي على التحريم، فقال: إنما أوجبنا تزويج الأيم، لقوله تعالى: * (فلا تعضلوهن) * (البقرة: 232) وقال لم يتبين لي وجوب إنكاح العبد، لأنه لم يرد فيه النهي عن العضل، بل لم يرد إلا قوله تعالى: * (وانكحوا الأيامى) * (النور: 23) الآية، فهذا أمر، وهو محتمل للوجوب والندب.
الشبهة الأولى: لمن ذهب إلى أنه للندب أنه لا بد من تنزيل قوله: إفعل، وقوله أمرتكم على أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب، وهو طلب الفعل واقتضاؤه وأن فعله خير من تركه، وهذا معلوم، وأما لزوم العقاب بتركه فغير معلوم، فيتوقف فيه، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه: الأول: أن هذا استدلال، والاستدلال لا مدخل له في اللغات، وليس هذا نقلا عن أهل اللغة قوله إفعل للندب. الثاني: أنه لو وجب تنزيل الألفاظ على الأقل المستيقن لوجب تنزيل هذا على الإباحة والاذن، إذ قد يقال: أذنت لك في كذا فافعله، فهو الأقل المشترك، أما حصول الثواب بفعله فليس بمعلوم، كلزوم العقاب بتركه، لا سيما على مذهب المعتزلة، فالمباح عندهم حسن، ويجوز أن يفعله الفاعل لحسنه ويأمر به، وكذلك يلزم تنزيل صيغة الجمع على أقل الجمع ولم يذهبوا إليه. الثالث: وهو التحقيق أن ما ذكروه إنما يستقيم أن لو كان الواجب ندبا وزيادة، فتسقط الزيادة المشكوك فيها، ويبقى الأصل، وليس كذلك، بل يدخل في حد الندب جواز تركه، فهل تعلمون أن المقول فيه، إفعل يجوز تركه أم لا، فإن لم تعلموه فقد شككتم في كونه ندبا وإن علمتموه فمن أين ذلك؟ واللفظ لا يدل على لزوم المأثم بتركه، فلا يدل على سقوط المأثم بتركه أيضا. فإن قيل: لا معنى لجواز تركه إلا أنه لا حرج عليه في فعله، وذلك كان معلوما قبل ورود السمع، فلا يحتاج فيه إلى تعريف السمع، بخلاف لزوم المأثم، قلنا: لا يبقى لحكم العقل بالنفي بعد ورود صيغة الامر حكم فإنه معين للوجوب عند قوم فلا أقل من احتمال حصل الشك في كونه ندبا فلا