الامر، وهو فاسد من وجهين: أحدهما: أنه شاع في لسان العلماء أن الامر ينقسم إلى أمر إيجاب وأمر استحباب، وما شاع أنه ينقسم إلى أمر إباحة وأمر إيجاب مع أن صيغة الامر قد تطلق لإرادة الإباحة، كقوله تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * (المائدة: 2) * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا) * (الجمعة: 01). الثاني: إن فعل المندوب طاعة بالاتفاق، وليس طاعة لكونه مرادا، إذ الامر عندنا يفارق الإرادة، ولا لكونه موجودا أو حادثا أو لذاته أو نفسه إذ يجري ذلك في المباحات، ولا لكونه مثابا عليه، فإن المأمور وإن لم يثب ولم يعاقب إذا امتثل كان مطيعا، وإنما الثواب للترغيب في الطاعة، ولا أنه قد يحبط بالكفر ثواب طاعته، ولا يخرج عن كونه مطيعا، فإن قيل: الامر عبارة عن اقتضاء جازم لا تخيير معه، والندب مقرون بتجويز الترك والتخيير فيه، وقولكم: أنه يسمى مطيعا، يقابله أنه لو ترك لا يسمى عاصيا، قلنا:
الندب اقتضاء جازم لا تخيير فيه، لان التخيير عبارة عن التسوية، فإذا رجح جهة الفعل بربط الثواب به ارتفعت التسوية والتخيير، وقد قال تعالى في المحرمات أيضا: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * (الكهف: 92) فلاينبغي أن يظن أن الامر اقتضاء جازم، بمعنى أن الشرع يطلب منه شيئا لنفسه، بل يطلب منه لما فيه من صلاحه، والله تعالى يقتضي من عباده ما فيه صلاحهم، ولا يرضى الكفر لهم، وكذلك يقتضي الندب لنيل الثواب ويقول: الفعل والترك سيان بالإضافة إلي، أما في حقك فلا مساواة ولا خيرة، إذ في تركه ترك صلاحك وثوابك فهو اقتضاء جازم، وأما قولهم: أنه لا يسمى عاصيا، فسببه أن العصيان اسم ذم، وقد أسقط الذم عنه، نعم يسمى مخالفا وغير ممتثل، كما يسمى فاعله موافقا ومطيعا.
مسألة (الواجب غير الحرام) إذا عرفت أن الحرام ضد الواجب لأنه المقتضى تركه، والواجب هو المقتضى فعله، فلا يخفى عليك أن الشئ الواحد يستحيل أن يكون واجبا حراما، طاعة معصية، لكن ربما تخفى عليك حقيقة الواحد، فالواحد ينقسم إلى واحد بالنوع، وإلى واحد بالعدد، أما الواحد بالنوع كالسجود مثلا، فإنه نوع واحد من الافعال، فيجوز أن ينقسم إلى الواجب والحرام، ويكون انقسامه، بالأوصاف والإضافات، كالسجود لله تعالى، والسجود للصنم، إذ أحدهما واجب، والآخر حرام، ولا تناقض، وذهب بعض المعتزلة إلى أنه تناقض، فإن السجود نوع واحد مأمور به، فيستحيل أن ينهى عنه، بل الساجد للصنم عاص بقصد تعظيم الصنم لا بنفس السجود، وهذا خطأ فاحش، فإنه إذا تغاير متعلق الأمر والنهي لم يتناقض، والسجود للصنم غير السجود لله تعالى، لان اختلاف الإضافات والصفات يوجب المغايرة، إذ الشئ لا يغاير نفسه، والمغايرة تارة تكون باختلاف النوع، وتارة باختلاف الوصف، وتارة باختلاف الإضافة، وقد قال الله تعالى: * (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله) * (فصلت: 73) وليس المأمور به هو المنهي عنه، والاجماع منعقد على أن الساجد للشمس عاص بنفس السجود والقصد جميعا، فقولهم إن السجود نوع واحد لا يغني مع انقسام هذا النوع إلى أقسام مختلفة المقاصد، إذ مقصود بهذا السجود تعظيم الصنم دون تعظيم الله تعالى، واختلاف وجوه الفعل كاختلاف نفس الفعل في حصول الغيرية الرافعة للتضاد فإن التضاد إنما يكون بالإضافة إلى واحد، ولا وحدة مع المغايرة.