تحكم، لأنه قول بعض الأمة والعصمة إنما تثبت للكل فقط، فإن قيل: نعلم قطعا أن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة، فنقل إليهم مذهب بعض الصحابة مع انتشاره وسكوت الباقين كانوا لا يجوزون العدول عنه، فهو إجماع منهم على كونه حجة، قلنا: هذا إجماع غير مسلم، بل لم يزل العلماء مختلفين في هذه المسألة، ويعلم المحصلون أن السكوت متردد، وأن قول بعض الأمة لا حجة فيه.
مسألة (انعقاد الاجماع باتفاق الأمة) إذا اتفقت كلمة الأمة ولو في لحظة انعقد الاجماع، ووجبت عصمتهم عن الخطأ، وقال قوم: لا بد من انقراض العصر وموت الجميع، وهذا فاسد، لان الحجة في اتفاقهم لا في موتهم، وقد حصل قبل الموت، فلا يزيده الموت تأكيدا، وحجة الاجماع الآية والخبر، وذلك لا يوجب اعتبار العصر، فإن قيل: ما داموا في الاحياء فرجوعهم متوقع وفتواهم غير مستقرة، قلنا: والكلام في رجوعهم، فإنا لا نجوز الرجوع من جميعهم، إذ يكون أحد الاجماعين خطأ، وهو محال، أما بعضهم فلا يحل له الرجوع، لأنه برجوعه خالف إجماع الأمة التي وجبت عصمتها عن الخطأ، نعم يمكن أن يقع الرجوع من بعضهم ويكون به عاصيا فاسقا، والمعصية تجوز على بعض الأمة، ولا تجوز على الجميع، فإن قيل: كيف يكون مخالفا للاجماع وبعد ما تم الاجماع، وإنما يتم بانقراض العصر؟ قلنا: إن عنيتم به أنه لا يسمى إجماعا فهو بهت على اللغة والعرف، وإن عنيتم أن حقيقته لم تتحقق فما حده، وما الاجماع إلا اتفاق فتاويهم، والاتفاق قد حصل، وما بعد ذلك استدامة للاتفاق لا إتمام للاتفاق، ثم نقول: كيف يدعي ذلك ونحن نعلم أن التابعين في زمان بقاء أنس بن مالك وأواخر الصحابة كانوا يحتجون بإجماع الصحابة؟ ولم يكن جواز الاحتجاج بالاجماع مؤقتا بموت آخر الصحابة، ولهذا قال بعضهم: يكفي موت الأكثر، وهو تحكم آخر لا مستند له، ثم نقول:
هذا يؤدي إلى تعذر الاجماع، فإنه إن بقي واحد من الصحابة جاز للتابعي أن يخالف إذ لم يتم الاجماع، وما دام واحد من عصر التابعين أيضا لا يستقر الاجماع منهم، فيجوز لتابعي الخلاف، وهذا خبط لا أصل له، ولهم شبه:
الشبهة الأولى: قولهم إنه: ربما قال بعضهم ما قاله عن وهم وغلط، فيتنبه له، فكيف يحجر عليه في الرجوع عن الغلط، وكيف يؤمن ذلك باتفاق يجري في ساعة واحدة؟ قلنا:
وبأن يموت من أين يحصل أمان من غلطه، وهل يؤمن من الغلط إلا دلالة النص على وجوب عصمة الأمة، وأما إذا رجع وقال: تبينت أني غلطت فنقول: إنما يتوهم عليك الغلط إذا انفردت، وأما ما قلته في موافقة الأمة فلا يحتمل الخطأ، فإن قال: تحققت أني قلت ما قلته عن دليل كذا، وقد انكشف لي خلافه قطعا فنقول: إنما أخطأت في الطريق لا في نفس المسألة، بل موافقة الأمة تدل على أن الحكم حق، وإن كنت في طريق الاستدلال مخطئا.
الشبهة الثانية: إنهم ربما قالوا عن اجتهاد وظن، ولا حجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يرجع، وإذا جاز الرجوع دل أن الاجماع لم يتم؟ قلنا: لا حجر على المجتهد في الرجوع إذا انفرد باجتهاده، أما ما وافق فيه اجتهاده اجتهاد الأمة فلا يجوز الخطأ فيه ويجب كونه حقا والرجوع عن الحق ممنوع.