الأصول أيضا مصيب، وليس فيها حق متعين، وقال الجاحظ فيها حق واحد متعين لكن المخطئ فيها معذور غير آثم كما في الفروع، فلنرسم في الرد على هؤلاء الثلاثة ثلاث مسائل:
- مسألة (مخالفة أهل الكتاب للاسلام) ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الاسلام من اليهود والنصارى والدهرية إن كان معاندا على خلاف اعتقاده فهو آثم، وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم، وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر فهو أيضا معذور، وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط، لان الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى إذ استد عليهم طريق المعرفة، وهذا الذي ذكره ليس بمحال عقلا لو ورد الشرع به، وهو جائز ولو ورد التعبد كذلك لوقع، ولكن الواقع خلاف هذا فهو باطل بأدلة سمعية ضرورية، فإنا كما نعرف أن النبي (ص) أمر بالصلاة والزكاة ضرورة فيعلم أيضا ضرورة أنه أمر اليهود والنصارى بالايمان به واتباعه، وذمهم على إصرارهم على عقائدهم، ولذلك قاتل جميعهم، وكان يكشف عن مؤتزر من بلغ منهم ويقتله ويعلم قطعا أن المعاند العارف مما يقل وإنما الأكثر المقلدة الذين اعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول عليه السلام وصدقه والآيات الدالة في القرآن على هذا لا تحصى، كقوله تعالى: * (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) * (ص: 72) وقوله تعالى:
* (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم) * (فصلت: 32) وقوله تعالى: * ((45) إن هم إلا يظنون) * (الجاثية: 42) وقوله تعالى: * (ويحسبون أنهم على شئ) * (المجادلة: 81) وقوله تعالى:
* (في قلوبهم مرض) * (البقرة: 01) أي شك، وعلى الجملة ذم الله تعالى والرسول عليه السلام المكذبين من الكفار مما لا ينحصر في الكتاب والسنة، وأما قوله: كيف يكلفهم ما لا يطيقون قلنا: نعلم ضرورة أنه كلفهم، أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون فلننظر فيه، بل نيه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل، ونصب من الأدلة وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات الذين نبهوا العقول، وحركوا دواعي النظر حتى لم يبق على الله لاحد حجة بعد الرسل.
- مسألة (الاجتهاد في العقليات) ذهب عبد الله بن الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد مصيب في العقليات كما في الفروع، فنقول له: إن أردت أنهم لم يؤمروا إلا بما هم عليه وهو منتهى مقدورهم في الطلب. فهذا غير محال عقلا ولكنه باطل إجماعا وشرعا كما سبق رده على الجاحظ، وإن عنيت به أن ما أعتقده فهو على ما اعتقده فنقول: كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقا وإثبات الصانع ونفيه حقا وتصديق الرسول وتكذيبه حقا، وليست هذه الأوصاف وضعية كالاحكام الشرعية؟ إذ يجوز أن يكون الشئ حراما على زيد وحلالا لعمرو إذا وضع كذلك، أما الأمور الذاتية فلا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها، فهذا المذهب شر من مذهب الجاحظ، فإنه أقر بأن المصيب واحد، ولكن جعل المخطئ معذورا بل هو شر من مذهب السوفسطائية لانهم نفوا حقائق الأشياء، وهذا قد أثبت الحقائق ثم جعلها تابعة للاعتقادات، فهذا أيضا لو ورد به