القديم يتعلق بالقادر العاقل، فإذا طرأ العجز والجنون زال التعلق، فإذا عاد العقل والقدرة عاد التعلق، والكلام القديم لا يتغير في نفسه، فالعجز والموت سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب عنه، والنسخ سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب كما أن حكم البيع وهو ملك المشتري إياه تارة ينقطع بموت العبد المبيع، وتارة بفسخ العاقد، ولأجل خفاء هذه المعاني أنكر طائفة قدم الكلام. وأما الجواب عن الثالث: وهو انقلاب الحسن قبيحا فقد أبطلنا معنى الحسن والقبح، وأنه لا معنى لهما، وهذا أولى من الاعتذار بأن الشئ يجوز أن يحسن في وقت ويقبح في وقت، لأنه قد قال في رمضان: لا تأكل بالنهار وكل بالليل، لان النسخ ليس مقصورا عندنا على مثل ذلك، بل يجوز أن يأمر بشئ واحد في وقت وينهى عنه قبل دخول الوقت، فيكون قد نهى عما أمر به كما سيأتي. وأما الجواب عن الرابع: وهو صيرورة المراد مكروها فهو باطل، لان الامر عندنا يفارق الإرادة، فالمعاصي مرادة عندنا وليست مأمورا بها وسيأتي تحقيقه في كتاب الأوامر. وأما الجواب عن الخامس وهو لزوم البداء، فهو فاسد، لأنه إن كان المراد أنه يلزم من النسخ أن يحرم ما أباح، وينهى عما أمر فذلك جائز * (يمحو الله ما يشاء ويثبت) * (الرعد: 93) ولا تناقض فيه، كما أباح الاكل بالليل وحرمه بالنهار، وإن كان المراد أنه انكشف له ما لم يكن عالما به، فهو محال، ولا يلزم ذلك من النسخ، بل يعلم الله تعالى أنه يأمرهم بأمر مطلق ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم، ثم يقطع التكليف بنسخه عنهم فينسخه في الوقت الذي علم نسخه فيه، وليس فيه تبين بعد جهل، فإن قيل: فهم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ أو أبدا فإن كان إلى وقت النسخ فالنسخ قد بين وقت العبادة كما قاله الفقهاء، وإن كانوا مأمورين أبدا فقد تغير علمه ومعلومه، قلنا: هم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ الذي هو قطع الحكم المطلق عنهم، الذي لولاه لدام الحكم كما يعلم الله تعالى البيع المطلق مفيدا للملك إلى أن ينقطع بالفسخ: ولا يعلم البيع في نفسه قاصرا على مدة، بل يعلمه مقتضيا لملك مؤبد بشرط أن لا يطرأ قاطع، لكن يعلم أن النسخ سيكون، فينقطع الحكم لانقطاع شرطه لا لقصوره في نفسه، فليس إذا في النسخ لزوم البداء، ولأجل قصور فهم اليهود عن هذا أنكروا النسخ، ولأجل قصور فهم الروافض عنه ارتكبوا البداء ونقلوا عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخبر عن الغيب مخافة أن يبدو له تعالى فيه فيغيره، وحكوا عن جعفر بن محمد أنه قال: ما بدا الله في شئ كما بدا له في إسماعيل أي في أمره بذبحه، وهذا هو الكفر الصريح، ونسبة الاله تعالى إلى الجهل والتغير، ويدل على استحالته ما دل على أنه محيط بكل شئ علما وأنه ليس محلا للحوادث والتغيرات، وربما احتجوا بقوله تعالى: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت) * (الرعد: 93) وإنما معناه أنه يمحو الحكم المنسوخ ويثبت الناسخ، أو يمحو السيئات بالتوبة، كما قال تعالى: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * (هود: 411) ويمحو الحسنات بالكفر والردة، أو يمحو ما ترفع إليه الحفظة من المباحات ويثبت الطاعات، فإن قيل: فما الفرق بين التخصيص والنسخ؟
قلنا: هما مشتركان من وجه إذ كل واحد يوجب اختصاص الحكم ببعض ما تناوله اللفظ لكن التخصيص بيان أن ما أخرج عن عموم الصيغة ما أريد باللفظ الدلالة عليه، والنسخ